المحتويات الفصل الأول: العدالة في الميزان: مقدمة || الفصل الثاني:السلوك المثلي والقانون: ظروف الحملة || الفصل الثالث: الفضيحة والعار: محاكمات "كوين بوت" || الفصل الرابع: في إثر "كوين بوت": التعدي علي الخصوصية و روابط الجماعة || الفصل الخامس: استغلال الوحدة والإيقاع فى الفخ عبر الإنترنت || الفصل السادس: المرآة المعيوبة: التحيز وإجراءات القانون || الفصل السابع: جسم الجريمة: دوافع التعذيب وجوانبه الطبية || الفصل الثامن: خاتمة || الملحق: القوانين المتعلقة بالسلوك المثلي في مصر || شكر وتوطئة || الهوامش

الفصل السادس: المرآة المعيوبة: التحيز وإجراءات القانون

أ. مولد في طنطا

إن وصمة العار المتصلة بالسلوك المثلي في مصر تتسبب في إشاعة شعور عام وسط الناس بأن الأشخاص الذين يمارسونه مذنبون، إذ إن رجال الشرطة والنيابة يفترضون أن الرجال اللذين يمارسون الجنس مع الرجال قادرين على ارتكاب أي جرم آخر بل ويحملون ذنبه.

ربطوا إيديه ورجليه وعلقوه في حاجة زي ترابيزة معدن برجلين طويلة، حاجة زي الحصان بتاع ألعاب القوى ـ وربطوه متعلق تحتيها. كانوا مغميين عينيه وكان عريان. كانوا مربطين فيه أسلاك وعمالين يكهربوا فيه طول الليل. كهربوه من لسانه. في اليوم اللي بعديها دخلونا عليه. كان مرمي على الأرض في مكتب رئيس المخبرين اللي حصل فيه التعذيب. كان لسانه وارم وطالع بره بقه خالص.
أنا عرفته من صوابع إيديه ورجليه لما دخلنا عليه ـ ما كانش فيه حاجة تانيه من ملامحه باينه. لما حاول يتكلم كنت بافهمه بالعافية.... دخل علينا ضابط قال لينا " اكتبوا أسامي كل الخولات اللي شفتوهم في شقة عادل في العشر سنين اللي فاتت". كانوا بيوروه لنا علشان يحذرونا.[317]


وبالتالي، قد يرى رجال الشرطة أن أي فعل عنيف موجه ضد الرجل المثلي لا يستلزم تحقيقا، بل يُتَّخذ السلوك المثلي لأي رجل ذريعة لإلحاق المزيد من الظلم به. فبدلاً من البحث عن المجرم، تجري الشرطة حملة اعتقالات جماعية من أجل اضطهاد فئة كاملة من الناس. وفي حالات وثقتها هيومان رايتس ووتش، كان رد فعل السلطات، عند مقتل رجل يُزعم أنه مِثلي، القبض على الناس بشكل جماعي وبدون تمييز، حيث يُعتقل العشرات أو المئات بدون سبب محتمل ـ أى لا على أساس الشك في شيء بعينه ولكن على أساس سلوكهم المثلي ـ ويُحتجزون بغير وجه حق ويعذبون. وبذلك يتلاشى هدف الإمساك بالقاتل أمام هدف توسيع دائرة قمع الشرطة. وتبين مثل هذه الحالات كيف تمارس الشرطة سلطاتها بلا قيود وتساندها سلطة التحيز.
قص عدد من ضحايا إحدى هذه الحملات قصتهم لهيومان رايتس ووتش. خليل رجل في الأربعينات من عمره، من بيئة فقيرة بمحافظة الغربية، قال عن السبب في الأحداث التي جرت في طنطا في أواخر عام 2002 أنها "حصلت علشان فيه واحد اسمه عادل اتقتل في بيته". عندما قام ثلاثة من أصدقاء عادل المثليين بكسر باب بيته وعثروا على الجثة، ألقت الشرطة القبض عليهم. قال خليل:
    البوليس عذبهم، مش علشان فاكرين إن هم اللي قتلوا، لكن كانوا عارفين إنهم "جاي" ويقدروا يوصلوهم لغيرهم من "الجاي". الأول عذبوهم لغاية ما اعترفوا إنهم كده. وبعدين الضباط طلبوا منهم يرشدوا عن غيرهم.[313]
وسرعان ما قبضوا على خليل، الذي يقول:"جولي الشغل وعملوا لي قَلَبان، وقعدوا يقولوا خولات". وفي قسم الشرطة ضربه الضباط حتى يعطيهم أسماء الآخرين.
    أما رفيق فهو رجل في منتصف الثلاثينات من عمره، وهو ـ مثله مثل خليل ـ شخصية رئيسية في مجتمع الرجال الذين يصفون أنفسهم بأنهم مثليين بطنطا. وقال:"لسه مش قادر أصدق إن عادل مات. كان قوي جداً، كان أقوى واحد فينا في جسمه وفي عقله وتفكيره. الله يرحمه".
    عادل اتقتل يوم الأحد 29 سبتمبر. بعدها بأربع أيام جم ليا البيت. فتشوا البيت والمراتب وزقوا والدتي. ماكنتش أنا في البيت. كانت حوالي حداشر ونص بالليل. أنا وقتها كنت قدام القسم. كنت سمعت إنهم مسكوا اللي قتل عادل. كان ليا أصحاب ممسوكين فرُحت القسم، وأنا في دماغي إن القضية خلصت وإنهم طالعين.
    لكن بدلاً من ذلك، وجد رفيق ضابطاً يمسك به و"جرجرني عند المخبرين"، حيث ضربه أحد الضباط على مؤخرة عنقه. ثم جرى استجواب رفيق وهو معصوب العينين ومقيد اليدين وقال إن الضباط،
    سألوني أسئلة قذرة: "هو إنتوا طيزكم بتأكلكم فبتبقوا عاوزين تتناكوا، هو فعلاً بتبقى فيه دودة بتسبب الحكاية دي؟" أنا قلت دي حاجة نفسية مش حاجة بدنية قالوا لي، "يا خول يا وسخ بتتكلم كده إزاي وإنت ما معاكش غير ثانوية عامة؟" قلت له، "بأقرأ وأتعلم و"الجاي" بيتعلموا من بعض وبيعلموا بعض. إحنا ناس طبيعيين، بنتكلم عن الدنيا اللي حوالينا. مش شرط نبقى جهلة لمجرد إننا "جاي".
وفي السادسة صباحاً اصطحب رجال الشرطة رفيق إلى مدينة المحلة الكبرى للقبض على "إثنين من أصحابي: أخذناهم من بيوتهم".[314] قال أحدهم وإسمه بيشوي:
    مالقونيش في بيتي لما جم ياخدوني ـ كنت بايت عند أختي.. . فقالوا [لها] حناخدك إنتي لغاية ما هو ييجي". أخذوها القسم. أكيد هى قالت لهم على مكاني علشان هم جم بيت اختي وأخدوني من عندها وسابوا مراتي. قالوا لها إنهم ماسكينني علشان خول. كانت صدمة رهيبة.[315]
حسب ما قاله رفيق، اعتقلت الشرطة 86 رجلاً في تلك الأيام وقال خليل: "أول ست أيام كان كله تعذيب. كانوا يجيبوك من الحجز وإنت لسه قايم من النوم ويضربوك تاني ويستخدموا الوَشّ [أي الصدمات الكهربائية]".[316] ويقول رفيق أن أحد الرجال ممن عثروا على جثة عادل تعرض للتعذيب الوحشي:
    ربطوا إيديه ورجليه وعلقوه في حاجة زي ترابيزة معدن برجلين طويلة، حاجة زي الحصان بتاع ألعاب القوى ـ وربطوه متعلق تحتيها. كانوا مغميين عينيه وكان عريان. كانوا مربطين فيه أسلاك وعمالين يكهربوا فيه طول الليل. كهربوه من لسانه. في اليوم اللي بعديها دخلونا عليه. كان مرمي على الأرض في مكتب رئيس المخبرين اللي حصل فيه التعذيب. كان لسانه وارم وطالع بره بقه خالص.

    أنا عرفته من صوابع إيديه ورجليه لما دخلنا عليه ـ ما كانش فيه حاجة تانيه من ملامحه باينه. لما حاول يتكلم كنت بافهمه بالعافية.... دخل علينا ضابط قال لينا " اكتبوا أسامي كل الخولات اللي شفتوهم في شقة عادل في العشر سنين اللي فاتت". كانوا بيوروه لنا علشان يحذرونا.[317]
وتعرض رجل آخر لـ "إنهم علقوه في الشباك من الكلبشات لمدة أربعة أيام من غير أكل ولا شرب".[318] يتذكر خليل: "فيه واحد ضربوه وعلقوه وبعدين كهربوه في ودانه ورجليه ولسانه". كانوا يقولوا: مش عاوز تتكلم ماشي؟". ويدوله الوَشّ في لسانه. في مرة خلونا كل اللي اتقبض علينا نقف في الأوضة اللي كان متعلق فيها وإيديه فوق راسه، وهما بيكهربوه".[319]
وتعرض العديد من الآخرين للتعذيب، على حد قول بيشوي: "كانوا يأخدوهم من الحجز بالليل على 2 صباحاً بعدين كانوا يرجعوهم الساعة 6 ـ 7 الصبح ويرموهم على الأرض وهم مغميين [معصوبي العينين]. كانوا بالعافية بيتحركوا ويتكلموا. لما كانوا يفوقوا شوية كانوا يحكوا لنا على الكهرباء".[320]
قال خليل:
    فيه واحد برغل إسمه فهد [إسم مستعار] أنا باموت فيه [أي أحبه حباً جما]. لما سألوني عليه قلت لهم ما أعرفوش. ضربوني في وشي وضربوني برجليهم واستعملوا الكرباج... . قالوا لي " روح هاته" وقلت ليهم صدقوني لو كنت أعرف أراضيه كنت جبته لكم.[321]
تحدثت هيومان رايتس ووتش مع فهد. قال: "لموا أعداد مهولة، بس مالقونيش أنا. خدوا واحد من شارعنا ـ أنا أصلاً ما كنتش أعرف إنه "جاي". الحكومة جت بالليل؛ قالوا الجيران: "دول بيلموا الخولات".[322]
    وقال رفيق: "فهمت بعد أسبوع إنهم ما عادوش خلاص عاوزين يمسكوا القاتل، بقى الهدف إنهم يلموا أكبر عدد من الخولات علي قد ما يقدروا. في يومها أغمى عليا لما شفت الدم على الارض".
    كلنا كان حجزنا غير قانوني. مضّونا بالعافية على محضر تحري علشان لو أي تفتيش جه على القسم يقدروا يقولوا عليك متاخد تحري... ماكنش فيها أي تاريخ وهما يقدروا يحطو التاريخ وقت ما يعوزوا، علشان هما ملهمش الحق في إنهم يخَلُّونا أكثر من 48 ساعة.[323]
مدينة طنطا بها جامع وضريح السيد البدوي، وهي من أشهر أماكن مصر المقدسة. يجتذب مولد السيد البدوي حشودا غفيرة في شهر أكتوبر. وعندما اقترب موعد المولد، قرر الضابط استغلال الرجال المحتجزين في رمي شبكة أوسع. أطلق سراح الرجال نهاراً فقط، وكانوا مجبرين على العودة لقسم الشرطة ليلاً، والنزول إلى الطرق في رحلة الصيد مع الشرطة. قال رفيق: كنا بندوّر على الولاد "الجاي"، على الناس اللي نعرفها".[324] وحسب كلام خليل:
    كنا ننزل الشارع ومعانا المخبرين، ولو نعرف حدّ برغل أو كديانه إحنا نروح له بس أو نستناه يجينا وهم يقفشوه؛ برغل، كديانه يمسكوه. وفي أغلبية الوقت يأخدوه على القسم.[325]
وحكى لنا مدحت، وهو رجل مثلي من القاهرة، حكاية رحلته الحافلة إلى طنطا.
    رحت على المولد في شهر عَشَرَة. ليلتها كان زحمة جداً جداً جداً. كان فيه شاب صغير واقف قدامي. مره واحده لقيته ماسك سوستة البنطلون وبيحاول يفتحها. أنا مش باحب الأسلوب ده نهائي...
    فجاة لقيت أربعة جايين علينا بسرعة قوي وسط الزحمة واحد منهم مسكني من الحزام و الباقي تقريباً كانوا بوليس بس لابسين لبس عادي، ودول تولوا الموضوع. شدوني على جنب ،جنب الجامع. طلبوا بطاقتي. واحد منهم سألني "انت بتعمل إيه في المولد؟"
    قلت لهم جاي أسمع الشيخ ياسين التهامي. سألني "إنت برغل ولا كديانه ؟" عملت فيها أهبل. ورّى بطاقتي لضابط تاني والتاني ده هز راسه. الأولاني قالي، "ياللا مع السلامة روح بيتك".
    خِلصِت على كده. بس أنا لما اتاخذت كنت سامع صويت وعياط وسط الزحمة. ولما سابوني ـ أنا كنت في حتة ضلمه على طرف الجامع ـ طلعوا لي شوية ناس في الظلمه وقعدوا يسألوا فيا:"إيه اللي حصل؟ إيه اللي خللاهم يسيبوك؟" دول كانوا بقى "جاي". أنا فهمت منهم إن فيه مرشدين البوليس جابهم علشان جريمة القتل اللي حصلت في طنطا. .. الناس كانت خايفة جداً جداً.[326]
وقال فهد صديق خليل لهيومان رايتس ووتش أن
    قابلت خليل في المولد وسط الزحمة وقالي بصوت واطي "إنت ما تعرفنيش" لما طلع أخيراً من الحبس، كان عايزني أجيله البيت: قال لي لازم تيجي، فيه حاجة عاوز أوريهالك".
    قلع القميص. كان ظهره كله علامات من الكرباج قال لي، "كل ده علشان خاطرك. كانوا عايزينني أقول إنك خول. وأنا مارضيتش أسلمك لهم". أنا كنت باترعش من كتر الرعب لما شفت المنظر.[327]
    بعد الاعتقالات الأولى بأكثر من أسبوعين توقف البحث في المولد: القت الشرطة القبض على متهم في الجريمة، لكن خليل يقول أن كثيراً من الرجال الذين تعرضوا للتعذيب هربوا من المدينة.

ب. الخوف والكراهية والقانون: تأثير وصمة العار

نرى من الاعتقالات الجماعية التي جرت في المولد في طنطا كيف يتدخل التحيز في ممارسات الشرطة فيصبح أهم من غياب الأدلة، بل يؤدي إلى ضرب عرض الحائط بالإجراءات القانونية الواجبة، أو حتى إدعاء وجود هذه الإجراءات. كما أن من نتائج جو الاحتقار المحيط بجريمة الفجور في مصر تنحية سيادة القانون جانباً على اعتبار أن القانون لم يعد مهما في مثل هذه الحالات. وحسب أقوال المحامي ماهر نعيم الذي دافع عن المتهمين في قضية دمنهور (والتي بدأت بحالة اعتقال جماعي مشابهة) إنه في قضايا الفجور
لا يبحث رجال الشرطة والنيابة عن أي أدلة لتبرئة المتهمين: هم لا يهتمون بالمتهمين، لأنهم ينظرون إليهم على انهم شيء خارج نطاق الإنسانية والتصرف الإنساني. باختصار، إن هذه الجريمة ممقوتة في مصر، ومن يرتكبها يصفونه بأنه قذر وحقير إلى أقصى درجة، ولو لم تحدث معجزة تثبت براءته، يظل منبوذا ويصبح موضع احتقار الجميع.[328]
يتناول هذا الفصل وصمة العار وعرقلتها لتحقيق ما يهدف إليه القانون من تحقيق العدالة. فوصمة العار تتسبب ــ إذا ما تواجدت تهمة السلوك المنحرف ــ في تهيئة الجو لإنهيار العدالة، وإهدار أشكال الحماية التي يكفلها القانون. وحالات الظلم الجماعية في طنطا ليست إلا نتيجة واحدة من بين الكثير من نتائج هذا الوضع.

i. المراقبة والاعتقالات والتحرش

أصبحت أخبار الاعتقالات الجماعية "للخولات" سلعة رئيسية في الصحافة المصرية. يعير رجال الشرطة أهمية لمراقبة الرجال المثليين بدقة، وتظهر هذه الدقة في احتفاظهم بشبكة مرشدين تستغلهم الشرطة في الاعتقالات وفي ملء ملفات شرطة الآداب. فمثلا، أخبر وليد هيومان رايتس ووتش أنه اعتقل ضمن مئات الرجال، واحتجزوا في منطقة الزاوية الحمراء بالقاهرة عام 1998، في حملة اعتقالات جماعية عقبت مقتل رجل مثلي هناك وقال أن الشرطة "فرجونا على صور الخولات متصنفين "سلبي" و"إيجابي" و"متنوع". كل دي صور! كتاب ضخم من كل حتة في القاهرة". وخلال حملة الاعتقالات، أتى المرشدون بالأشخاص "اللي معروفين إنهم "جاي"، علشان يسّجلوهم ويسيبوهم ـ علشان ملفات بوليس الآداب تتملي".[329]
ووصف أحد الأشخاص الذين أرشدوا عن الآخرين الضغوط التي تمارس على الناس حتى يرشدوا عن غيرهم. في يناير/كانون الثاني من عام 2003، نشرت صحيفة "العربي" خبر سرقة دبلوماسي أمريكي حدثت بفندق "الماريوت" في القاهرة، ونشرت ان الجاني هو رجل تعرف عليه بهدف جنسي.[330] وبعدها في نفس الشهر، استدعت شرطة سياحة منطقة المنيل[331] رجلاً مثليا في العشرينات من عمره بعد أن أرشد عنه مرشد. وقال:
    كان فيه بتاع عشرة مستنيين بره. وكان فيه ناس جوه. كنت سامع صريخهم. كانوا بيمدوهم على رجليهم. الناس اللي كانت اتعذبت طلعت بره. شفت ناس منهم طالعة مش قادرة تمشي، وقعوا في الأرض على طول. ودخلت مجموعتنا، اللي كانوا استدعونا. الضابط قال لنا" إنتم مش حنعذبكم". بس قال ضروري نجيب له ناس تاني.
وقام إبراهيم بإعداد كمين: "كان عندي واحد صاحبي " جاي"، واتفقت أقابله على قهوة [أي في مقهى]. كانوا هم مستنيين، وخدوه".[332]
أدّى تواجد المرشدين والشرطة في المناطق التي يشتبه في إنها ملتقى للمثليين إلى استمرار الاعتقالات. فمثلا في 14 يوينو/حزيران 2002، ألقي القبض على عشرة رجال أثناء خروجهم من فندق "أوديون" بالقاهرة". قال أحدهم: "كنت مع اثنين أصحابي. الأمين اللي على الباب وقفنا وخد بطايقنا وحطنا في البوكس. لما استكفوا أخدونا كلنا على قسم قصر النيل. قالوا علينا خولات".

ضرب رجال الشرطة المتهمين وركلوهم إلى أن وقَّعوا على الاعترافات. وبعد يومين جرى عرض الرجال على النيابة، وأخلى سبيلهم بكفالة. قال الضحية: "أنا هربت من البلد. كانوا البوليس اتصلوا بشغلي ولقيت نفسي اترفدت. أكيد الباقي أخدوا أحكام. أنا عرفت إن أصحابي الاثنين محبوسين دلوقت".[333]
    حكى رمزي، وعمره تسعة عشر عاماً، عن واقعة القبض عليه في نوفمبر/تشرين الثاني بميدان رمسيس. "لقيت واحد بيقول لي، "خشي يا حبيبتي خشي. إنت باين عليكي". ووداني على عربية الشرطة".
    لمّوا لهم بتاع خمسة كمان. كان اللي أرشد عنّا مصطفى "ليلى علوي". عرفت بعد كده هو مين وشهرته إيه. عرفت بعدها إن مصر كلها تعرفها وإنها مرشدة كبيرة. عرفت إنها مرشدة علشان دخلت معانا في عربية الشرطة، بس لما وصلنا القسم نزلت وروّحت بيتها.
أخذوا رمزي إلى قسم شرطة الأزبكية حيث:
    كل الضباط نزلوا تلطيش فينا. إدونا بالأقلام وضربونا على قفانا.. قعدوا يقولوا: "إحنا حنلبسّكم قضايا كبيرة، إنتم اللي بتخربوا البلد، إحنا لازم نمسككم ونمسك كمان المنظمات اللي واقفة وراكم"
استخدم رمزي هاتفه النقال -الذي كان قد أخفاه- في الاتصال بمحام، وجاء الأخير واستطاع أن يحرر رمزي بالرشوة. قال رمزي: " ماعرفش التانيين جرى لهم إيه... كانوا كلهم صغيرين، بس كلهم كانوا أكبر مني ـ يعني في العشرينات أو التلاتينات. وكانوا كلهم زيّي مرعوبين. هم البوليس كانوا بيدوروا على الصغيرين ـ مش عارف ليه. بس هو فيه واحد من الامناء قال لي "إنتم الشباب اللي لازم نعلّمكم درس، إحنا ح نورّي كل شباب البلد الطريق السليم".[334]

ii. غياب حماية القانون

الرجال الذين يشتبه في ممارستهم للسلوك المثلي لا يتعرضون فقط للاعتقال وسوء المعاملة من جانب الشرطة: بل أيضاً يحدث بشكل روتيني إنهم لا يجدون من يدافع عنهم ضد اعتداءات الآخرين.
    في حديثه لهيومان رايتس ووتش أكد مدحت على خطورة حياة المثليين في القاهرة الآن. تجري سرقة المثليين بالإكراه على يد اللصوص من غير المثليين "هم بيبقوا عارفين أن إنت مش حيبقى في إيدك حاجة تعملها ـ البوليس لو رحت له ح ياخدك إنت مش هو".[335]
فأنور شاب في الثلاثينات من عمره، سقط ضحية موقف من هذه المواقف. إلتقى أنور في عام 2002 في مناطق الالتقاء المحيطة بمحطة رمسيس بالقاهرة برجل يدّعي أنه مثلي، لكن ذلك الرجل اشترك مع جماعة من أصدقائه في سرقة أنور بالإكراه تحت تهديد السكين. وبعدها استمر الرجل في التحرش بأنور طالباً المزيد من الاموال. قال لي "أنا عرفت إنك خول و حأروح أقولهم عندك في الشغل". .. أعمل إيه وإحنا في مجتمع كله ضد "الجاي"؟
وأخيراً، عندما قابل أنور اللص ذات ليلة في ميدان رمسيس، أمسك أنور به واقتاده إلى قسم الشرطة لكي يبلغ عنه. "نفى كل حاجة. قال إن أنا خول وطلبت منه ينيكني وإن هو رفض". فحاول أن يتبين الضابط إذا كان أنور مثليا أم لا.
    خلاني أروح وآجي قدامه. وفتح قميصي وبص على شعر صدري. وكنت في منتهى الإحراج لأنه كمان قال لي إفتح البنطلون وبص على السليب [أي الملابس الداخلية]... وبعدين قام مسكني نزل بيّا على الحجز. خللى العسكري يفتح الحجز ورماني جوّه. وقال للّي جوه: "ده خول، يمكن. إعرفوا لي لو خول". وقفل بالمفتاح.
وتقدم عدد من المحتجزين نحوه في يد أحدهم مطواة قائلين: "تعال يا خول ورّينا ح تعمل إيه". فإذا ما قاوم أنور الاغتصاب ثبتت صحة روايته.
    شديت المطوه من إيده وحطيتها في بطني وقلت لهم "لو جه حد يقرب مني حأموت نفسي".... الولد ضربني على إني خدت مطوته، بس بعد كده طبطب عليا وهدّاني وإدّاني سيجارة. قعدت، لكن ما ابتديتش أهدأ غير بعدها بعشر دقايق.... رجع الضابط وسأل الناس اللي في الحجز، "هيه، حصل حاجة؟" ردوا عليه وقالوا: "لأ ده تمام، ده كان عايز يموت نفسه لو كنا عملنا فيه حاجة". ففهمت الامتحان.
ومع ذلك، تنازل أنور عن بلاغه تأثراً بالصدمة.[336]
    كان تامر شاباً في الثانية والعشرين من عمره ويسكن في الإسكندرية في 2001، حيث اقتحم شقته اثنان من أصدقائه غير المثليين: "سرقوا مني حوالي سبعة آلاف جنيه [وقيمتها آنذاك نحو ألف وخمسمائة دولار أمريكي] وساعاتي وكل البرفانات وحاجات الحلاقة بتاعتي وكل سيديهاتي [أي اسطوانات الليزر التي أملكها]. اتصلت بوالد واحد من الأولاد علشان أطلب إن كل حاجتي ترجع لي. قال لي والده إنه عارف إن أنا خول وإنه فخور بإبنه إنه عمل كده في واحد زيي منحل ويجيب القرف".
أبلغ تامر الشرطة، وفور القبض عليهم، قال اللصوص أن تامر مثلي. يتذكر تامر ان "الضباط بدأوا يعاملوني زي الخراء. بدأوا يقولوا "هي النسوان خلصت علشان تطلع إنت وتتلبون؟ هو خرم طيزك خلاص أكل مخك؟" وحاجات من النوعية دي. الضابط ضربني وإداني بالأقلام -علّم في وشي حتة زرقا قد كده. وقعدوا يبهدلوا فيّا حوالي أربعين دقيقة".

أمر المحقق تامر بالتنازل عن المحضر". وابتدى يسب ويلعن تاني ويقول: "السرقة من اللي زيك حلال". رديت عليه: يعني لو أنا كده [مثلي] يبقى ماليش الحق في إني أطلب المساعدة لو اتسرقت؟ قال: "طبعا لأ".

كان تامر شاباً في الثانية والعشرين من عمره ويسكن في الإسكندرية في 2001، حيث اقتحم شقته اثنان من أصدقائه غير المثليين: "سرقوا مني حوالي سبعة آلاف جنيه [وقيمتها آنذاك نحو ألف وخمسمائة دولار أمريكي] وساعاتي وكل البرفانات وحاجات الحلاقة بتاعتي وكل سيديهاتي [أي اسطوانات الليزر التي أملكها]. اتصلت بوالد واحد من الأولاد علشان أطلب إن كل حاجتي ترجع لي. قال لي والده إنه عارف إن أنا خول وإنه فخور بإبنه إنه عمل كده في واحد زيي منحل ويجيب القرف".
أبلغ تامر الشرطة، وفور القبض عليهم، قال اللصوص أن تامر مثلي. يتذكر تامر ان "الضباط بدأوا يعاملوني زي الخراء. بدأوا يقولوا "هي النسوان خلصت علشان تطلع إنت وتتلبون؟ هو خرم طيزك خلاص أكل مخك؟" وحاجات من النوعية دي. الضابط ضربني وإداني بالأقلام -علّم في وشي حتة زرقا قد كده. وقعدوا يبهدلوا فيّا حوالي أربعين دقيقة".
أمر المحقق تامر بالتنازل عن المحضر". وابتدى يسب ويلعن تاني ويقول: "السرقة من اللي زيك حلال". رديت عليه: يعني لو أنا كده [مثلي] يبقى ماليش الحق في إني أطلب المساعدة لو اتسرقت؟ قال: "طبعا لأ". وعاد تامر إلى منزله، لكن "الحكاية ما انتهتش على كده". طلب منه الضابط في اليوم التالي أن يأتي لقسم الشرطة ومعه أغراضه. "قال إن فيه تلاته اتاخدوا فجور، وإن أنا لو ماجيتش حيجيب إسمي وعنواني في القضية". والضابط أجبر تامر على إعطائه أغراضاً قيّمة "نوع من "الهدية" مني علشان يسكت".


وعاد تامر إلى منزله، لكن "الحكاية ما انتهتش على كده". طلب منه الضابط في اليوم التالي أن يأتي لقسم الشرطة ومعه أغراضه. "قال إن فيه تلاته اتاخدوا فجور، وإن أنا لو ماجيتش حيجيب إسمي وعنواني في القضية". والضابط أجبر تامر على إعطائه أغراضاً قيّمة "نوع من "الهدية" مني علشان يسكت".
    قال تامر: "بعدها بحوالي شهر قبلت شغلانة بمرتب قليل في منطقة نائية، بس علشان أخرج من الأسكندرية والقاهرة. بيدفعوا قليل أوي. .. بس أكون هناك أحسن مما أتعرض للخطر ده. أنا حاسس بوحدة فظيعة".[337]
أحمد رجل أعمال في الخمسينات من عمره، وروى لهيومان رايتس ووتش قصة محاولة قتل لم تتم، أصبح الضحية فيها متهما. في عام 2000، اعتدى علي أحمد رجل كان على علاقة به من قبل، فاغتصبه ثم سرقه مستعينا بشريك، ثم طعنه وتركه معتقداً أنه مات.
ورغم إصابته الجسيمة، تردد أحمد في الإبلاغ عن الجريمة علشان "أهلي ما يتفضحوش. والدي ووالدتي ما كانوش يعرفوا إني كده، ما كانوش حيستحملوا الصدمة". ولكن زاره ضابط شرطة في وقت متأخر من الليل:
    قال لي: أنا عارف إنك خول ولازم تقول لنا على كل حاجة. قال لي إنهم معاهم أسماء ناس [مثليين] كثيرة: وورّاني إنه حيعمل قضية، فيها ييجي 30 أو 40 واحد، وإنه حيتأكد من كل أصحابي. قال لي إذا أنا مش حتتوجه لي أي تهمة. بس قالي: "قول لنا علشان إحنا لازم نمسك الناس دول" ـ اللي هم الإتنين".[338]
في النهاية، روى أحمد للشرطة قصة الاعتداء والسرقة ـ لكنه لم يقل شيئاً عن الاغتصاب. ومع ذلك، عندما صدر الأمر بتحويله لهيئة الطب الشرعي لفحص إصاباته، اكتشف إن النيابة قد أمرت بالكشف الطبي على شرجه أيضا.ً[339]

وعلى مدى العامين التاليين، حاول رجل إدعى أنه من الشرطة أن يبتز أحمد. اتصل الرجل مراراً وطلب أموالاً نظير إيقافه القضية ضده، وأعطاه أحمد خمسة آلاف جنيه (أكثر من ألف دولار أمريكي آنذاك). وأخيراً –وفقا لقول أحمد- "بعد كل ده ما حصل بأكثر من سنتين، جالي إخطار بالجلسة من المحكمة".
    كان أول مره يجيلي خبر بكده. وكان مكتوب إن لي ميعاد وجلسة تاني يوم على طول بعد اليوم اللي وصل فيه! ما وصلش بالبريد، سلموه باليد لوالدتي. وكان مكتوب فيه كل التهم بما فيها الشذوذ الجنسي. والدتي إنهارت... ماحضرتش الجلسة الاولى ـ ما أنا ما كنتش اعرف ميعادها غير قبل الجلسة بيوم... إتحكم عليا غيابي بسنة سجن.[340] اللي كان بيبتزني من قبل كده من بجاحته جالي البيت بعدها بكام يوم، وبيقول لي محتاج فلوس. مارضيتش أدي له حاجة.
عقدت جلسة الاستئناف في أوائل عام 2003 وأيدت الحكم: فبعد أن تحمّل أحمد الاغتصاب ومحاولة القتل، صار الآن مهددا بالحبس، واختبأ أحمد. وقال أحمد لهيومان رايتس ووتش في فبراير 2003، "أسهل لي إني أموت نفسي وما أروحش السجن في القضية دي.. .. هم عايزيني أعمل إيه؟ أسرق ولا أشحت ولا أشتغل في الدعارة ولا ابقى مجرم؟ هم ليه عايزين يدمروا حياتي؟"[341]

iii. غياب الإجراءات القانونية الواجبة

قال ماهر عبد الواحد النائب العام لجمهورية مصر العربية مخاطباً هيومان رايتس ووتش: "لا تأثير للاشمئزاز الأخلاقي علي محاكمات الفجور". وقال إنه في نفس الوقت "نحن نلتزم بحماية المجتمع من الشذوذ، من الناحية الدينية والاجتماعية والثقافية. هذا السلوك ببساطة غير مقبول نهائياً".[342]
في الواقع، توحي أبحاث هيومان رايتس ووتش بأن نظام القانون الجنائي نادراً ما يتطلّع إلى الموضوعية في قضايا الفجور، إذ يكثر التذرّع بـ "الوضع الثقافي والاخلاقي" لتبرير الاعتقالات والقضايا والإدانة على أساس الانماط الفكرية الجامدة ووصمة العار بدلاً من الأدلة.

في المستوى الأول، وهو مستوى الشرطة، تكون تحيزات الشرطة هي الدافع وراء الحملة. ويقول محامي حقوق الإنسان حلمي الراوي إن الضباط "غالبا عندهم جهل أصلاً القانون بيقول إيه". ويقول ايضاً أنه فيما يتعلق بقضايا الفجور: "هم بيتخيلوا إن مجرد الممارسة جريمة. هم مش ممكن يتصوروا إن القانون بيتطلب تحقيق شروط معينة. الشرطة أصلاً ما عندهمش اهتمام قوي بالتفاصيل". [343]
قد نوافق على هذا القول من ناحية تفاصيل القانون. أما من ناحية التفاصيل المتعلقة بأسلوب المرء في الجلوس وأسلوب الكلام أو المظهر أو أسلوب السير، فالأمر يختلف تماما. يختار رجال الشرطة المتهمين بناء على مخزون من الأنماط الجامدة، وهي علامات دقيقة "للشذوذ" موجودة في أسلوب الملبس والسير والحديث، تجمعت معاً لاختلاق هوية منبوذة ومجرَّمة ـ وهي هوية "الخول". وبذلك يساعد القانون على خلق ما يشبه "الهوية الجنسية" أثناء تجريمه للأفعال الجنسية.

يقوم القانون 10 لسنة 1961 بتعريف مجموعة من الأفعال تكوِّن جريمة إذا تراكمت. ولكن الأفعال نفسها التي تتراكم لتصبح "إعتياد الفجور" نادرا ما تراها عيون الشرطة. بالإضافة إلى ذلك، فالأفعال الجنسية بالتراضي ليس لها ضحية تدل على المتهم. وتعوّض الشرطة ذلك باستخدامها للمرشدين للكشف عن المذنبين وتعرية الحياة الشخصية، ولكنها فيما عدا ذلك عادة ما تستدل على الأفعال من واقع المظاهر. وهكذا فإن وضع الجسم وإيماءات الأطراف تعتبر أدلة على الميول والرغبات الدفينة. ويتذكر زياد وهو أحد متهمي " كوين بوت" أنه في قسم شرطة عابدين
    كان فيه واحد عامل وشم. أول ما الضابط شافه اتجنن وزعق: "بقى عايزيني أصدق إنكم مش خولات؟" الوشم أو الملابس الداخلية أو لو حد عامل شعره بشكل معين أو لابس لبس معين: أي حاجة من دي ممكن تخللي البني آدم "جاي". وتخلليه ينضرب لغاية ما يبقى بينه وبين الموت شعرة.[344]
تكمن ديناميكية "قوانين اللواط" الغريبة، وكذلك يكمن مصدر خرقها للخصوصية، في إن صعوبة إثبات الجريمة عادة ما تضعف من دقة شروطها. فبدلاً من البحث عن جريمة بعينها، تضطر الشرطة إلى التفتيش عن العلامات الخارجية الدالة على الميول الداخلية. وينتهي الأمر بأن رجال الشرطة يعاقبون على المظهر وليس على الفعل، فيكون عملهم ـ كما قالت هيومان رايتس ووتش في مجال آخر ـ "على أساس جو من وصمة العار؛ حيث تدل بعض العلامات الخارجية على نوع من الناس بعينه، فيستهدف القانون هويات ومجموعات بعينها".[345] وبهذا يبدأ انهيار الصلة بين جريمة ما بعينها وعقاب ما بعينه، وهذه الصلة أساس سيادة القانون. وهكذا فإننا عندما نبدأ في معاقبة الناس لا على ما يفعلونه بل على أشكالهم، فإن الشرعية تتعرض للخطر. ونحن نلاحظ مثل هذا الانحدار في مراحله المتقدمة إذا تأملنا معاملة الشرطة لتهمة "الفجور" في مصر.
ويسود وضع مماثل على مستوى النيابة، طبقا لقول حلمي الراوي. "فيه برضه جهل شديد بالقانون... لكن الجهل أشد فيما يتعلق بجرائم الجنس ـ من كتر إشمئزازهم من الفكرة، مش بيسألوا أبسط الأسئلة بتاعة الشرطة، ومش بيتحروا عن متطلبات القانون البدائية و الاساسية".[346]
    ويتذكر أحد المتهمين في قضية "كوين بوت" غضب وكلاء النيابة بسبب الدنس الذي أصاب مكاتبهم من وجود ملف للفجور عليها". أول ما دخلت، وكيل النيابة قال لزميله: ياللا نخلص مع ولاد الوسخة دول، دي أول مرّة نضطر نشتغل في قضية بالوساخة دي".[347]
وكيراً ما نرى التحيز في مجالات أخرى من القضاء. يبدي بعض المحامين اطمئنانهم إلى أن الدفاع عن قضايا الفجور لا يتأثر بما يرتبط بها من وصمة عار. ولكن كثيراً من المتهمين لا يشاركونهم هذا الاطمئنان ويشكو صابر، هو من طنطا، من احتقار محاميه له: "مش بيطيق يكلمني... المعلومة بيديها لي بالعافية. كل تصرفاته دي علشان طبيعة القضية. هو عارف إني مش حأعرف ألاقي محامي غيره. كل المحامين اللي في طنطا رفضوا يمسكوا القضية، وإحنا تعبنا أوي على ما أقنعناه ياخدها".[348]
    قال زياد إنه عندما علمت أمه بإنه مقبوض عليه في قضية "كوين بوت": "حاولت تجيب لي محامي من البلد عندنا، كان صاحب العيلة. قال لها إنت إبنك خول واعترف. ماليش دعوة به".[349]
وأخيراً، على مستوى القضاء، تكثر الروايات عن سوء المعاملة. أخبر أحد المحامين هيومان رايتس ووتش أن في أول جلسة لمحاكمة صابر بطنطا، رفع القاضي قيمة الكفالة بشكل تعسفي، وقال ":إنت فاكرني مصدق إنهم ما عملوش كده؟ طبعا عملوها.ً أنا بأعمل كده علشان تاني مرة يفكروا ميت مره قبل ما يقلعوا البنطلون".[350]
    وأضاف حلمي الراوي قائلا: "الحكاية مش بس إن القضاة بيصدَّقوا على كلام الشرطة والنيابة، الحكاية إنهم بيصدروا أحكامهم على اساس الأفكار الجامدة". وتشير إجراءات المحاكم إلى حدوث لبس بين الأعراف الاجتماعية والقانون. ففي حيثيات حكمه في قضية "كوين بوت" استطرد القاضي حسن السايس بعيداً عن الإجراءات ليقول:
موضوع الدعوى و… ما حوته من جريمة، فإنها تعيد ما كان يجري في عهد لوط عليه السلام، وما حل بهم من النقمة العميمة، وما ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله من النساء لعباده الصالحين.[351]

وبنفس الشكل، قدم أحد أفراد النيابة ملخصا للتهم الموجهة للصبي المتورط في قضية"كوين بوت" (أنظر الحاشية 142 أعلاه) صاغ فيه مرافعته للقاضي بشكل يرجع إلى المقدسات لا إلى القانون: إن عددا من هؤلاء الذين استسلموا للرذيلة حتى صاروا عبيدا لها بلا ضمير، قد هرعوا إلى كل ما حرمه الله، وتخلوا عن كل الأخلاق الحميدة. لقد حادوا عن الصراط المستقيم الذي رسمه الله للإنسان والذي عرف الإنسان رغباته من خلاله… وللأسف، فتح المتهم عينيه على مثل هذه الجريمة الشنعاء وهو لم يتعد السابعة عشرة من عمره.

وبعد هذه الالفاظ الطنانة الضارية، قد يبدو الحكم بالحبس ثلاث سنوات أقل مما نتوقع.[352] والواقع أن كثرة إلغاء الأحكام التي تصدر بالإدانة رغم ضعف الادلة والتحجج بحجج لا صلة لها بالموضوع إنما يدل على التبحر الذي يتمتع به اعضاء المراتب العليا نسبيا في السلطة القضائية المصرية. لكن هذه الدرجة لا تخلو هي الأخرى من حالات الظلم الناتجة عن التحيز: وكان أحد ضحايا هذا التحيز نبيل التي وردت قصه في الفصل الثاني.

في عام 1997، حكمت المحكمة على نبيل غيابياً بالحبس لمدة سنة. تنص المادة 528 (2) من قانون الإجراءات الجنائية إن الحكم بالجنحة يسقط بعد مرور خمس سنوات. ومعنى ذلك انه إذا قدم المدان التماساً لمحكمة الاستئناف، فعليها أن تلغي العقوبة دون أن يقضيها. وحتى يتخلص نبيل من خوفه من الاعتقال، قدم استئنافا من هذا النوع. وفي جلسة بتاريخ 19 يناير/كانون الثاني 2003 وحضرتها هيومان رايتس ووتش، ضرب القاضي أيمن صالح بالقانون عرض الحائط، إذ خفض العقوبة إلى ستة أشهر واجبة النفاذ الفوري. ولما كان تواجد المتهمين في قفص الاتهام شرطاً من شروط سماع القضية،[353] أقتيد نبيل فوراً إلى السجن.[354] وقال حلمي الراوي، وهو المحامي الذي ترافع عنه في الاستئناف: "القاضي بص في خلقته وقال: ده خول ولازم يتحبس. وملعون أبو القانون".[355]
تعتبر وجهة نظر القاضي محمد عبد الكريم، والذي رأس محكمة "كوين بوت" الأولى، مثالاً على آراء الكثيرين من العاملين في هذا المجال وقال لنا إن "المجتمع والإعلام كمان شافوا إن القضية دي فيها تصرف ممنوع". وأضاف قائلا:
"القانون مرآة المجتمع":
هل هذه الفعلة تستاهل مجهودات منظمة حقوق إنسان للدفاع عنها؟... لو رجعنا لأصول الدين في التاريخ ـ من الواضح إن جميع الأديان السماوية نبذت الفجور وكرهته. برضه نقطة ثانية. العملية دي الطب والعلم لقوا إنها بتجيب الأمراض. نقطة ثالثة. خلق الله الرجال والنساء لممارسة العلاقة الجنسية مع بعض... الفعلة دي حاجة ضد الطبيعة البشرية ما نقدرش نسيب لها مجال الحرية. لازم نشعر بالضيق منها، ونقاومها، ونعاقبها...
من وجهة نظري، الناس دول أدانتهم جميع المجتمعات والأديان. مافيش غير مرحلة واحدة ممكن تتدخل فيها حقوق الإنسان: هى إن الناس دي تستاهل إن إحنا نعتبرهم مرضى. هم يحتاجون إلى الإرشاد والاهتمام والوعظ الديني و الأخلاقي... هذا ما يجب أن يكون هدف حقوق الإنسان، هو التوجه إلى هؤلاء الناس لإعادتهم إلى عالم البشر.[356]

وإذا سمعنا مثل هذه التعليقات على لسان قاضٍ ذي وزن، لعرفنا مدى صعوبة الحصول على الإجراءات القانونية الواجبة في حالة الأشخاص أصحاب هوية موضع الاحتقار.

ويرى حلمي الراوي إن مثل هذه التوجهات ما هي إلا أعراض لأزمة القضاء في مصر، حيث تزداد نقاط القصور في نظام يفتقر العاملون به إلى التدريب والرواتب المجزية، ويعمل به رجال الشرطة السابقين وأفراد النيابة السابقين، وينصاع بشكل متزايد أمام ضغوط المجتمع والدولة.[357] يقول الراوي: "تصب كل من الشرطة والنيابة، عن طريق الطموح والترقية، في فرع القضاء. وبهذا ينهار الحد الفاصل بين القضاء والسلطة التنفيذية".
ونتائج ده بتظهر في حالات الفجور دي ـ إن نسبة من القضاه تكاد تكون منعدمة ممن لديهم التدريب الكافي والاستقلال الكافي علشان يقاوموا اللي عايزينه البوليس والنيابة والناس، وبدل ما يعملوا كده يقولوا : "بصّوا في القانون وشوفوا بيقول إيه".[358]

لكن الرجوع إلى القانون وحده لا يكفي. يتجاهل كل من رجال الشرطة والنيابة والقضاء متطلبات القانون الفنية: لو كانوا يلتزمون بتلك الضرورات لقلت أعداد المعتقلين والمحبوسين. مع ذلك، فإن المادة 9 (ج) نفسها (بما في ذلك المواد المتعلقة بها) يعيبها الإبهام والقابلية لتفسيرات عدة حتى في أضيق حدودها، كما إنها تنتهك بعض الحقوق الأساسية. هذه المادة تضير بالخصوصية وتستخدم كأداة للتفرقة، فهي تحث على التحيز وتطلق له العنان. وإذا أردنا أن نعيد سيادة القانون، فعلينا أن نلغي القوانين القمعية لا أن نحترمها. يجب إلغاء المواد التي تجرم الفجور من القانون المصري.
<< السابق    الفهرس    التالي>>