المحتويات : الفصل الأول: العدالة في الميزان: مقدمة || الفصل الثاني:السلوك المثلي والقانون: ظروف الحملة || الفصل الثالث: الفضيحة والعار: محاكمات "كوين بوت" || الفصل الرابع: في إثر "كوين بوت": التعدي علي الخصوصية و روابط الجماعة || الفصل الخامس: استغلال الوحدة والإيقاع فى الفخ عبر الإنترنت || الفصل السادس: المرآة المعيوبة: التحيز وإجراءات القانون || الفصل السابع: جسم الجريمة: دوافع التعذيب وجوانبه الطبية || الفصل الثامن: خاتمة || الملحق: القوانين المتعلقة بالسلوك المثلي في مصر || شكر وتوطئة || الهوامش

الفصل الأول: العدالة في الميزان: مقدمة

أ. ملخص:
"في كل حتة كانوا بيضربونا". هذا ما قاله شاب في الخامسة و العشرين من عمره مخاطبا هيومان رايتس ووتش. "سألناهم، إحنا بننضرب ليه؟! كأنهم كانوا مش بيتعاملوا مع بني آدمين أصلا... ولا حتى حيوانات ... كأننا شوية وساخة بيضربوها برجليهم".

وقال رجل آخر: "هما عاقبوني علشان هويتي الجنسية بس، وحكموا عليَّ أبقى مجرم عمري كله. من الآخر، دول قتلوا كل حلم جميل، وكل أمل في المستقبل كان ممكن أحلم بيه".

وقد شهد شهر مايو/أيار 2001 بداية أشهر قضية في الحملة، حوكم إثرها 52 رجلا جرى القبض على معظمهم في هجوم للشرطة على مرقص "كوين بوت" بالقاهرة، والذي كان يرتاده المثليون. كانت القضية أشبه بمهرجان منها بعملية قضائية، فلم يكن الرجال متهمون بالرغبات الخارجة عن المألوف فقط، بل بالاشتراك في مؤامرة كافرة أيضا –علما بان معظم هؤلاء الرجال لم يكونوا يعرفون بعضهم البعض إلا بعد القبض عليهم وإيداعهم السجون. ولمدة شهور، اكتظت الصحف بالعناوين المثيرة التي أطاحت بسمعة المتهمين، فوصفتهم "بعبدة الشيطان"، و "الشواذ جنسيا". ونشرت بذلك صورة جديدة للسلوك المثلي بحيث لم يعد أمرا خاصا، بل صار أمرا خطيرا يهدد الأمن العام، ورمزا دالا على طائفة سرية تهدد القيم الأخلاقية، و شبكة مخربة تهدد أمن الدولة.

وقال شاب آخر في العشرينات من عمره لهيومان رايتس ووتش: "أنا مش فاهم هما بيعملوا كدة ليه فينا واحنا ما آذيناش حد! .. إحنا مش بنئذي حد. أنا بني آدم ... مش كدة؟! قول لي إني بني آدم. لأ ... أنا عارف إني بني آدم.بس موش قادر أصدق إن حاجة زي كدة حصلت لي".
تعددت الأسئلة، و تكرر سؤال واحد مرارا. كتب رجل رسالة لهيومان رايتس ووتش يسأل فيها:
هما ليه بيدمروا مستقبلنا؟ مين سمح لهم بده؟ هما ما اكتشفوش إن مصر مليانة خولات غير من سنتين بس؟! ليه لازم أعيش بعيد عن أهلي وأصحابي، وعن مدينتي و عن بلدي، و موش عارف حارجع إمتى؟! ليه كنت باشوف نظرة الانتصار في عينيهم و هما بيستجوبوني؟!

وفي إحدى مدن الأقاليم قال رجل آخر بنبرة توسل: "هو ليه الموضوع ده مضايقهم أوي كدة؟! ليه لازم يعذبونا؟! إيه همهم في ده؟! إحنا موش بنيجي ناحية حد تاني. إحنا بنئذي مين؟! هما ليه بيكرهونا كدة؟ ليه؟ ليه؟".

تشن الحكومة المصرية حملة شعواء ضد المثليين. الدوافع المعلنة لتلك الحملة هي الإبقاء على التقاليد وصون الأخلاق من الدنس. وتتضمن الوسائل التي تستخدمها تلك الحملة الايقاع في الفخ ، وتحرش الشرطة بالناس، والتعذيب. يتراوح القائمون بشن الحملة ما بين الوزراء إلى فرق المرشدين الذين ينتشرون في أرجاء القاهرة. أما ضحايا الحملة فهم الرجال المشتبه في ممارستهم للجنس مع الرجال. ولا يستهدف عنف هذه الحملة علاقاتهم الخاصة فقط، بل يهدد صلب حياتهم.

منذ اوائل عام 2001 يتزايد عدد الرجال الذين يجري القبض عليهم و محاكمتهم وإصدار الأحكام ضدهم بتهمة ممارسة العلاقات الجنسية مع غيرهم من الرجال. وقد حصرت هيومان رايتس ووتش أسماء 179 رجلا عُرضت قضاياهم على النيابة بموجب قانون "الفجور" منذ بداية عام 2001. وفي الغالب لا تمثل هذه القضايا إلا نسبة صغيرة من العدد الإجمالي الحقيقي. كما قبضت قوات الشرطة على رجال آخرين و عذبتهم دون أن توجه إليهم أي تهمة.
لكن ضحايا هذه الحملة لا ينحصرون في الرجال الذين يمارسون العلاقات الجنسية مع غيرهم من الرجال، فآثار الحملة تتجاوز ما يعقبها مباشرة من تهشيم لأبدان الناس، و تحطيم لأسرهم، و تدمير لحياتهم، ذلك لأن التعدي على حقوق المهمشين من شأنه أن يعرِّض الجميع لنفس الخطر، فانتهاك حرمة الحياة الخاصة يفسد المبادئ التي تقوم عليها الحياة العامة. فحين يوجد التعذيب، و يرضى القانون بالعنف كأحد وسائل التحقيق، ويتقبل وصمة العار على إنها يقين بالإثم، فذلك يهدد كرامة كل مصري وشرفه.
وتظهر قوة هذه الحملة من خلال شدة وحشية المعاملة التي يتعرض لها هؤلاء الرجال. فرجال الشرطة يعذبون الرجال ممن يشتبه أنهم مارسوا الجنس مع الرجال بشكل أصبح روتينيا. ويحدث التعذيب أحيانا للحصول على الاعترافات، وأحيانا كمجرد تذكار سادي لما عرضوا له أنفسهم بسبب سلوكهم الذي يزعم أنه مثقل بالعار. ووصف عدد من الرجال ل "هيومان رايتس ووتش" كيف جَلَدَهو وضربو و ربطو و علقو في أوضاع مؤلمة لساعات عديدة من قبل رجال الشرطة، كما ألقي عليهم بالماء المثلج و حرقو بالسجائر. أما المقبوض عليهم أثناء حملات الاعتقال الجماعي فقد يتعرضون للصعق الكهربائي في أذرعهم وأرجلهم وأعضائهم التناسلية و ألسنتهم، كما يشجع الحراس المسجونين الآخرين على اغتصاب من يشكون في أنهم مثليين؛ ويكمل العذاب النفسي التعذيب البدني. وقد أشار أحد الضحايا إلى آثار تعذيب لا يحتمل في أذرعه وأرجله قائلا: "عايز أصرخ. عايز أبكى. مش عارف أطَلَّع اللي جوايا".
تجند الحكومة المصرية المؤسسة الطبية للمشاركة في إساءة المعاملة. فالمقبوض عليهم بتهمة السلوك المثلي يتعرضون للفحص الطبي لفتحة الشرج بالإكراه بأيدي أعضاء مصلحة الطب الشرعي، و هي فرع من فروع وزارة العدل. يجبر الأطباء هؤلاء الرجال على خلع ملابسهم و اتخاذ وضع السجود، ثم يقومون بتدليك الإست و توسيعه، و يصل الأمر في بعض الحالات إلى اختراق التجويف الشرجي بحثا عن أي علامات تدل على ما يسمى "بالاستخدام المتكرر" في "اللواط". يرتكز هذا الإجراء على معتقدات زائفة بالية تتشبه بالعلم، وعلى أوهام عن "آثار" مفترضة تخلفها عملية الممارسة الجنسية في الإست، لذا فإنه يُحسب على محمل الانتهاك وسوء المعاملة، بل يعتبر دربا من دروب التعذيب في حد ذاته. ورغم اندثار هذه المعتقدات منذ حوالي قرن ونصف، إلا إن بعض الأطباء المصريين لا يتوقفون عن الاستمرار في ابتكار وسائل جديدة لفحص الإست، بل تباهى بعضهم أمام "هيومان رايتس ووتش" بما أطلقوا عليه "وسائل جديدة" تستخدم فيها الكهرباء.

كانت قوات الشرطة في القاهرة تمارس حملات روتينية ضد عدة فئات متنوعة ذات مظهر لا يتوافق مع الصورة التي تحب أن تظهر بها العاصمة. و تكررت حالات سوء المعاملة التي وقع ضحاياها الباعة المتجولين و أطفال الشوارع و العاملين في مجال الجنس.[10] وسنرى في الفصل القادم أن الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال كانوا قد انضموا إلى تلك الفئات بحلول أواخر التسعينات على الأقل، حيث أصبحت شرطة الآداب تستهدف هؤلاء الرجال في شوارع القاهرة. وفيما يبدو إن هذا الاضطهاد المتزايد كان يستمد قوته من العداء العنيف النابع من رئيس شرطة الآداب بالقاهرة، واسمه طه الإمبابي

وقد شهد شهر مايو/أيار 2001 بداية أشهر قضية في الحملة، حوكم إثرها 52 رجلا جرى القبض على معظمهم في هجوم للشرطة على مرقص "كوين بوت" بالقاهرة، والذي كان يرتاده المثليون. كانت القضية أشبه بمهرجان منها بعملية قضائية، فلم يكن الرجال متهمون بالرغبات الخارجة عن المألوف فقط، بل بالاشتراك في مؤامرة كافرة أيضا –علما بان معظم هؤلاء الرجال لم يكونوا يعرفون بعضهم البعض إلا بعد القبض عليهم وإيداعهم السجون. ولمدة شهور، اكتظت الصحف بالعناوين المثيرة التي أطاحت بسمعة المتهمين، فوصفتهم "بعبدة الشيطان"، و "الشواذ جنسيا". ونشرت بذلك صورة جديدة للسلوك المثلي بحيث لم يعد أمرا خاصا، بل صار أمرا خطيرا يهدد الأمن العام، ورمزا دالا على طائفة سرية تهدد القيم الأخلاقية، و شبكة مخربة تهدد أمن الدولة.
وبسبب الهستيريا الإعلامية، أصبحت قضية "كوين بوت" أشهر حلقات الحملة، ولاشك في أن القضية كانت حدا فاصلا في بعض جوانبها، فقد سبق ظهور عناوين الصحف بدايات مترددة لظهور وسط اجتماعي للمثليين في القاهرة لتكوين مجموعة من الرجال الذين يرغبون في معاشرة الرجال. وقد وجد هؤلاء الرجال صفات مشتركة في بعضهم البعض، وأطلقوا على أنفسهم أحيانا (وليس دائما) صفة "جاي" (Gay). وقد اقتصر هذا المشهد الأولي على بعض المقاهي و الحانات و نقاط الالتقاء، ودوائر المعارف و الأصدقاء الذين يقصون حكاياتهم على بعضهم البعض و يناقشون معنى رغباتهم. لم يعتدي ذلك الوسط الوليد على الساحة العامة، و لم يتحدّ أية سلطة من السلطات، بل ظلت بعيدة عن أعين المجتمع عامة. ولكن بعد الفضيحة وأساليب التخويف التي أحاطت بالمحاكمة – ولاسيما في جو الرعب الذي أثارته الصحف- إنهار المشهد الوليد و فرضت العزلة على الجميع.
ومع ذلك، لم تكن قضية "كوين بوت" –رغم تبعاتها- بداية الحملة و لا نهايتها. فحتى قبل أن تهاجم الشرطة تلك الحانة، كان مخبرو قسم مكافحة جرائم الآداب [وهو جهاز شرطة أخلاقية منتسب لجهاز الشرطة المركزي التابع لوزارة الداخلية، وله فروع في كل المناطق] قد بدءوا في مراقبة الإنترنت، والرد على إعلانات "أريد صديقا" التي وضعها الرجال، ثم الاتفاق على موعد، وإلقاء القبض عليهم عند اللقاء. وازدادت حالات الايقاع في الفخ حتى وصل عدد المقبوض عليهم، في أوائل عام 2003 ، إلى حالة أسبوعيا على الأقل. وهذا الأسلوب يستغل تشظّي الصداقات و انهيار الثقة بين الأفراد - ويزيد هاتين المشكلتين وطأة في نفس الوقت. فكلمات التحذير لم تعد تنتقل عبر دوائر الصداقة المحطَّمة التي كانت تربط ما بين الرجال الذين تزداد شكوكهم يوما بعد يوم. و بعد إغلاق الشرطة للأماكن التي كانت تقوي الإحساس بالجماعة وتوفر فرصا للتواصل، أصبح بإمكان الشرطة أن تتصيد هؤلاء الرجال واحدا تلو الآخر.
وفي حالات أخرى، في القاهرة و خارجها، داهمت الشرطة شقق خاصة ، وراقبت المكالمات الهاتفية لجميع من يتصلون بها وقبضت عليهم، واستخدمت "مصادر سرية موثوق فيها" للإرشاد عن الرجال. كما تحتفظ أقسام مكافحة جرائم الآداب بقوائم بأسماء المثليين، وفي حالة إذا ما قتل رجل مثلي، قد تتبع ذلك عمليات اعتقال واسعة النطاق حيث تقبض الشرطة تعسفيا على عشرات الرجال وأحيانا المئات، و تحتجزهم، وكثيرا ما يجري استجواب المحتجزين وتعذيبهم لمدة قد تصل إلى أسابيع. و تدعم الحملة شبكة ممتدة من المرشدين الذين يوفرون المعلومات للسلطات المتعطشة إليها. بل إن أحد ضباط الآداب بالقاهرة الكبرى لديه مرشدون يدعون ضيوفهم إلى حفلات خاصة ثم يسلمونهم للشرطة، وقد وثقت هيومان رايتس ووتش 23 حالة اعتقال على يد ذلك الضابط وحده.
زعمت الحكومة المصرية علانية أن مراقبة السلوك المثلي وقمعه ما هما إلا دفاع عن قيمها الثقافية، وعن "عاداتها و تقاليدها الفريدة و المتطورة". لكن التعذيب و الايقاع في الفخ –وهما أهم أدوات تلك الحملة- يسيئان لكرامة الإنسان وكيانه، ويحطمان روابط الثقة التي تحميها الأديان و تكفلها الثقافة.
ولا ترتكز الحملة على التراث الثقافي، بل على قانون مكتوب بحماقة. زعم المسئولون المصريون زعما مضللا بأن الدولة "لا تسن إي قانون به تمييز و لا تفرقة على أساس التوجهات الجنسية للفرد". لكن في الواقع –كما توضح هيومان رايتس ووتش في هذا التقرير- أن القوانين التي كانت تستهدف البغاء أصلا قد اتسع نطاقها أثناء فترة سنِّها لتصبح أداة واسعة النطاق تعاقب على "الفسق" عامة. و الآن، أصبح المفهوم الواضح لتلك القوانين تجريم السلوك المثلي الذي يتم بالاتفاق بين طرفين و بدون مقابل تحت اسم "الفجور"، ومواد تلك القوانين يمكن مقارنتها بما يسمى بـ "قوانين اللواط" في غيرها من نطاقات السلطة القانونية. وهناك عدد متزايد من الدول يرفض مثل هذه القوانين على أنها اعتداءات غير مقبولة على الخصوصية والمساواة، وعلى أنها تنتهك أنواع الحماية المنصوص عليها في اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية.
أتاحت القوانين التي ليست لها حدود واضحة الفرصة أمام نظام عدالة جنائي يفتقر إلى الضوابط الكافية. وقام كل من الناشطين و المعلقين بمصر بلفت الانتباه إلى فشل رقابة الشرطة ووكلاء النيابة على مدى العقد الماضي، إلى جانب تدهور مستوى خبرة القضاء واستقلاله. فلم تعد وظيفة العدالة الجنائية تطبيق سيادة القانون بقدر ما أصبحت فرض سيطرة اجتماعية وحشية. إن انتشار ظاهرة التعذيب و اكتسابه صورة روتينية بحيث يصبح القاعدة وليس الاستثناء، يكشف عن أزمة نظام العدالة المصري.
ليست المعاملة القاسية التي يتعرض لها المثليون على المستويين البدني والنفسي سوى جانب واحد من تلك الأزمة، إلا أنها تلقي الضوء على العوامل التي تسمح بانتشار الانتهاكات و تخلق فئات معرضة للأذى بشكل خاص. إن الصحف تشن حملات ضارية تشهر بالمثليين و تصور المثلية الجنسية على أنها خطر قومي. ولا تحول أي نصوص مكتوبة لمنع الانتهاكات دون استخدام السلطات لأي وسيلة متاحة لمكافحة ذلك الخطر. فرجال الشرطة يعاملون الضحايا بوحشية، و يقومون بتزوير المحاضر، أما وكلاء النيابة فيقيمون الدعوى بناء على مظهر المتهم، أو أسلوبه في السير، أو طرقة تصفيف شعره، أو لون ملابسه الداخلية. أما القضاة فيصدرون أحكامهم بشكل روتيني، بصرف النظر عما إذا كانت الأدلة ملفقة، وعما إذا كانت تدل على حدوث جريمة طبقا لنص القانون.
لقد أصبحت الإجراءات التعسفية شيئا معتادا، و صار التعذيب أمرا طبيعيا. ومن ثم، يصبح التعدي على الأفراد تعديا على المبادئ النظرية التي تشد بنيان المجتمع، ويظهر تدهور العدالة في تحطيم كرامة الضحايا.
لابد من وضع حد لهذا العدوان على الحقوق الأساسية.
ب. منهج التقرير ومصطلحاته:
هذا التقرير مبني على أبحاث أجرتها هيومان رايتس ووتش في بعثة لها لمصر استغرقت ثلاثة أشهر في أوائل 2003 وعلى توثيقات و أبحاث و تحليلات قانونية أجراها الناشطون في مجال حقوق الإنسان في مصر. و أجرت هيومان رايتس ووتش مقابلات مع ثلاثة وستين من الرجال الذين اعتقلوا بتهمة السلوك المثلي بالقاهرة و جنوبي البلاد. وهناك عامل يشير إلى المدى الذي بلغه الشعور بالخوف و بوصمة العار: وهو أن جميع المعتقلين طلبوا منا عدم الإفصاح عن أسمائهم.
بالإضافة إلى تلك المقابلات، أجرينا أيضا عدة مقابلات مع أسر الرجال الذين اعتقلوا، والمحامين والقضاة الذين تناولوا قضايا الفجور، والمسئولين القانونيين، والناشطين في مجال حقوق الإنسان. كما فحصت هيومان رايتس ووتش ملفات 126 رجلا ممن قبض عليهم في قضايا الفجور بدءا من عام 1997.[1] كما درست هيومان رايتس ووتش مقالات الصحف، و النصوص القانونية، و رجعت لأحكام محكمة النقض و المحكمة الدستورية العليا في قضايا الجرائم الجنسية التي حوكم أصحابها على مدار خمسة عقود.
وبذلك نسمع أصوات متنوعة في هذا التقرير، أصوات أصحاب السلطة الأقوياء، و أصوات أضعف الضعفاء. وفي هذه التعددية للأصوات تغدو المصطلحات ذاتها موضعا للنقاش و مسألة سلطة.
هناك كلمتان محوريتان في هذا السياق، وكلاهما موضع خلاف. تحدث حسين - وهو شاب فقير فقرا مدقعا، أمي لكنه فطن ولماح - لمندوب هيومان رايتس ووتش عن الظروف التي أتت به إلى مرقص "كوين بوت" فقال: "واحد صاحبي قال لي إن ده ديسكو للجاي. أنا تعليمي ما كانش يسمح لي أعرف "جاي" دي يعني إيه. هو شرح لي معناها، و حسيت إن أنا "جاي" فرُحت هناك".[2]
إن كلمة "جاي،" بمعنى "الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال" وليدة ثقافة أمريكية خاصة في القرن العشرين. و الكلمة ذات الطابع العلمي المرادف لها "مثليّ" ليست أقدم منها كثيرا، فقد ابتكرها طبيب من وسط أوروبا في عام 1869. هاتان الكلمتان حديثتان نسبيا، لذا، يجب ألا نفترض أن السلوك الذي تحاولان وصفه قديم، أو أنه موجود في كل مكان. فقد تطورت هوية "المثليّ" مؤخرا بشكل إقليمي. فمفهوم "التوجه الجنسي"، بمعنى بناء هوية خاصة و عامة للشخص استنادا الى نوع الشخص الآخر موضع رغباته، ليس إلا مفهوما واحدا ضمن مفاهيم عدة تفسر السلوك المثلي و معانيه.[3]

لقد نشب مؤخرا خلاف حول استخدام كلمة "جاي" الإنجليزية و غيرها من الكلمات، من حيث الشرعية السياسية، و من حيث اللياقة. فهناك مثلا كاتب يتعاطف مع حماية السلوك المثلي في حد ذاته، لكنه يتهم منظمات حقوق الإنسان الدولية و المنظمات الغربية التي تدافع عن حقوق المثليين و المثليات و ثنائيي الجنس و عبر الجنسيين بأنهم يفرضون تصنيفاتهم الغربية للهوية على التجربة العربية، و يتهمهم بأنهم بذلك يريدون "تحويل" الرجال المستعمَرون ثقافيا وجنسيا "من أشخاص يمارسون السلوك الجنسي مع نفس النوع إلى ذوات يرى أصحابها انفسهم على أنهم "مثليين" و "جاي"".[4]
ومع ذلك، فحتى مثل هذه الحجة تعترف بأن السلوك الذي نطلق عليه كلمة "مثلي" –وهو الرغبة في رفيق من نفس النوع و ممارسة الأفعال الجنسية معه و إقامة العلاقات العاطفية معه- سلوك محلي تماما في مصر وليس مستوردا. فالمجتمع المصري، مثله كمثل المجتمعات جمعاء، دائما ما حاول ان يجد تفسيره الخاص لهذه الأفعال و الرغبات.[5] ويجادل كاتب آخر جدالا خلافيا في أن الهوية الجنسية في المجتمعات العربية "لا تتسم بالمساواة" في صميمها، بل إن العلاقات الجنسية فيها –على حد قوله- "وثيقة الصلة بعلاقات السلطة التي تتصل بالأدوار الجامدة الخاصة بكل نوع من النوعين، الذكر أو الأنثى".[6] ونجد أن التمييز بين المختَرَق و المخترِق في أفعال جنسية بعينها موجود بوضوح في كثير من الروايات المذكورة بهذا التقرير، ويظل هذا التمييز محورا هاما لفهم الطبيعة الجنسية. ومع ذلك، فإن هذين الدورين ليسا مطلقين ولا جامدين، و افتراض أنه لابد أن تنتج عنهما "عدم المساواة" ينكر انعطافات الطبيعة البشرية و ما بها من مناطق غموض فردية – حيث أن المساومة من طباع البشر، فيلعب الفرد دورا من الأدوار في موقف ما، ثم يتحول إلى دور ثان في موقف آخر.[7] فهناك قوات اجتماعية أخرى تعيد تعريف أنواع السلطة التي تنبع من اتخاذ دور جنسي ما – فالنظام الرمزي للجنس لا يعمل بمعزل عن سائر الخبرات.
ولا يعتبر كل الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال أنفسهم "مثليين" أو "جاي" – في مصر أو خارج مصر. و العملية هنا ليست عملية مصطلح دارج ولا مزاج شخصي: فبعض الرجال يرون أن دورهم "الإيجابي" أو "السلبي" –أي المخترِق أو المخترَق- هو المقوِّم الأساسي في هويتهم، ولا ترتكز تلك الهوية على نوع جنس الشخص الذي يشتهونه. و على النقيض، قد يرى الرجال أنفسهم في أدوار متعددة، تنتج عنها تعريفات متعددة لهويتهم لا يمكن صبها في قالب الصفة الواحدة.
هناك كلمة أخرى تنتشر أصداؤها في هذا التقرير، هي كلمة "خول". كانت كلمة خَوَل وجمعها خولات تصف أصلا راقصي القرن التاسع عشر من الذكور الذين يرتدون ملابس النساء، وكانوا يرقصون في الكثير من الاحتفالات العامة باعتبارهم بديل محترم للغوازي، أي الراقصات من النساء.[8] وأصبح المصطلح سبة وليس وصفا. ومع اكتساب الكلمة معنى ازدرائيا، تغير نطاق استخدامها أيضا. ففي بعض الحالات تستخدم كسُبَّة للرجل "السلبي" في العملية الجنسية، ومن الواضح أن هذا المعنى يرجع للاستخدام القديم للكلمة.[9] ولكن في هذا التقرير، في الحالة تلو الأخرى، يشمل المصطلح طرفى العملية الجنسية. و بنفس الشكل الذي يستخدم به هؤلاء الرجال كلمة "جاي" وصفا للهوية المشتركة التي تجمعهم بصرف النظر عن الدور من حيث الاختراق، يتزايد معدل استخدام كلمة خول لوصف وصمة عار انتشرت فجأة.
لا يوجد مفهوم اجتماعي ثابت للطبيعة الجنسية، بل تتغير المفاهيم باستمرار في سياق قوى كبيرة كالتغيير الثقافي و التبادل الثقافي. و تنفي مثل هذه الاستعارات و المراجعات فكرة أنه يمكن اختيار تفسير واحد نلصق به صفة الدوام أو نتهمه بأنه غريب أو نشيد به على أنه "حقيقي". فعندما ذهب حسين إلى مركب "كوين بوت"، وجد كلمة يبدو أنها تنطبق على صفة موجودة فيه. ورغم أن الكلمة نفسها أجنبية، كان مجرد استخدام حسين للكلمة تطويعا لها بحيث أضفى عليها المعاني الخاصة به.

إن لغة حقوق الإنسان تحمي حريات التفكير و التعبير الأساسية، فهي تكفل حق كل فرد في تعريف هويته ولا تحول دونها. و لذلك سعينا في هيومان رايتس ووتش نحو استخدام اللغة التي استخدمها كل شخص من الأشخاص في وصف نفسه. فإذا أطلقنا وصف "جاي" على رجل من الرجال، يكون السبب في ذلك أنه هو نفسه استخدم هذا اللفظ ليصف هويته. وإذا أطلقنا صفة "سلبي" أو "إيجابي" على رجل من الرجال (طبقا لأدوارهم في العملية الجنسية و التي توصف في المصطلح الشعبي بكلمتي "كُديانة" للرجل السلبي و "برغل" للرجل الإيجابي) فيرجع السبب إلى إن ذلك الشخص نفسه اعتنق تلك التسمية. فهدفنا أن نحترم أصوات الأشخاص الذين يتحدثون من خلال هذا النص و الوارد كلامهم و أن نحترم انتقاءاتهم للألفاظ.
ج. اختلاق حالة ذعر اخلاقي
لا يزال سؤال "لماذا؟" قائما. فالاعتقالات لم تبدأ في عام 2001، بل إن هذا التقرير يُظهر أن القانون الذي يستخدم ضد السلوك المثلي اليوم قانون قديم وضع قبل 2001 بخمسين عاما. و كانت السلطات تتحرش بالرجال المثليين قبل قضية "كوين بوت" بفترة طويلة على نطاق ضيق و بشكل عادة لم يصل إلى المحاكم.
كانت قوات الشرطة في القاهرة تمارس حملات روتينية ضد عدة فئات متنوعة ذات مظهر لا يتوافق مع الصورة التي تحب أن تظهر بها العاصمة. و تكررت حالات سوء المعاملة التي وقع ضحاياها الباعة المتجولين و أطفال الشوارع و العاملين في مجال الجنس.[10] وسنرى في الفصل القادم أن الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال كانوا قد انضموا إلى تلك الفئات بحلول أواخر التسعينات على الأقل، حيث أصبحت شرطة الآداب تستهدف هؤلاء الرجال في شوارع القاهرة. وفيما يبدو إن هذا الاضطهاد المتزايد كان يستمد قوته من العداء العنيف النابع من رئيس شرطة الآداب بالقاهرة، واسمه طه الإمبابي.
وفي الوقت نفسه، و على المستوى العريض، ازداد استخدام الحكومة المصرية لما يسمى بـ "حالات الذعر الأخلاقي"، وهي فضائح تقدم بشكل مثير بحيث يجري انتقاء فئات بعينها فتلصق بها وصمة عار، لكي تصبح كبش فداء لجوانب الحنق و الخوف التي. يعاني منها عامة الشعب[11] ففي التسعينات، امتلأت الصحف مثلا بمثل هذه الحالات من الذعر، فقد استهدفت الصحافة في مراحل شتى كل من الشيعة و المراهقين الذين يستمعون إلى موسيقى الروك، فوقعت هاتان الفئتان بشكل غير متوقع ضحية حملات الذم حيث. اتهمتهم الصحف "بعبادة الشيطان" و التآمر[12] حققت هذه الموجات من الذعر عدة أهداف. فمن ناحية، شغلت الصحافة عن الأزمات المتصاعدة التي تعرض لها النظام السياسي الغارق في خموله و المحاط بتعاسة عامة الشعب، و عن عجز نظام الحكم عن التصدي لانتشار الفقر والضجر بين أفرد شعبه. ومن ناحية أخرى، قدمت أعداء أشرار في صورة شيطانية، ولطخت سمعتهم قائلة أنهم ينتهكون حرمات الأديان. وفائدة هؤلاء الأعداء هي أن تلقي الحكومة عليهم اللوم عندما يتزايد ضجر الشعب، وتقدمهم ككبش فداء كلما استدعى الأمر. و بذلك –وهو الغريب- يمكن للحكومة أن تظهر في صورة حامي حمى الشرع أمام إغواء الانحراف المنظم.
فجرت قضية "كوين بوت" حالة ذعر أخلاقي جديدة على نطاق واسع أذهل المواطنين و شد انتباههم على مدى شهور. و بينما كانت الدولة تستغل العامل الجنسي لإثارة الجماهير، كانت تبني صورتها كمدافع عن الدين و الأخلاق الفاضلة. وكتب صحافي مصري أن الحكومة استغلت الخبر المثير ليس فقط "لتشغل الانتباه العام عن الكساد الاقتصادي و أزمة السيولة لدى الحكومة" بل أيضا لتقديم نفسها في صورة حامي حمى الأخلاق العامة حتى تهدئ حركة المعارضة الإسلامية التي تزداد قوة –فيما يبدو- يوما بعد يوم.[13]
وبذلك ساندت المتطلبات السياسية تصرفات الشرطة، فالتقى الذعر الأخلاقي بحملات التطهير الأكثر هدوءا. لقد أتاحت فضيحة "كوين بوت" للدولة فرصة لتلعب دورا رمزيا في التحكم في التقاليد، أي أن الدولة أصبح لها الحق في حراسة الحدود الثقافية وفي بتر كل ما تمقته، حتى ما يمارس منه في زوايا و أركان الحياة الخاصة و في طي الكتمان. ومن آثار القضية أيضا تعزيز مفهوم الشرطة إن السلوك المثلي عدو محدق و مخيف، مما حفز ضباط الشرطة في جميع أنحاء البلاد تحفيزا على زيادة حملات المداهمة و تكثيف التحرش بالمثليين. و النتيجة هي إن حالات اعتقال و تعذيب الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال قد تضاعفت. و رغم ذيوع أخبار قضية "كوين بوت" إلا أن الكثير من الانتهاكات الأشد وطأة لم يعلنها أحد حتى الآن. وحتى القضايا التي وثقتها هيومان رايتس ووتش لا تمثل إلا نسبة صغيرة من الإجمالي. لقد آن الأوان لأن نوقف القبض على الناس و محاكمتهم و خيانتهم وتعذيبهم.
د. توصيات أساسية:
تناشد هيومان رايتس ووتش الحكومة المصرية بـ:
  • إنهاء الإعتقالات والمحاكمات على أساس ممارسة الراشدين للسلوك المثلي عن تراض.
  • تعديل قوانينها لحذف أي إشارة إلى "الفجور" وغير ذلك من المصطلحات اللغوية المبهمة التي يمكن استخدامها لاستهداف الناس على أساس ممارسة الراشدين للسلوك المثلي عن تراض.
  • إنهاء مراقبة الشرطة للأشخاص و ايقاعهم في الفخ على أساس الاشتباه في السلوك المثلي.
  • حماية حق حرية التعبير عبر الإنترنت.
  • تدريب كل العاملين بجهاز العدالة الجنائية على المعايير الدولية لحقوق الإنسان، التي تشمل قضايا الطبيعة الجنسية و الاتجاه الجنسي، و معاقبة العاملين الذين يتورطون في إساءة المعاملة أو التمييز على أساس السلوكهم الجنسي المثلي، سواء بالمشاركة الفعلية في ذلك، أو التشجيع عليه، أو التغاضي عنه.
  • إنهاء ممارسة الفحص الشرجي من قبل الطب الشرعي للرجال المتهمين "بالفجور" أو بغيره من الجرائم الأخرى.
  • منع جريمة التعذيب و معاقبة مرتكبيها، وذلك بجعل التشريع يتماشى مع المعايير الدولية، وضمان إجراء تحقيقات كاملة و عادلة في جميع حالات ادعاء وقوع التعذيب و إساءة المعاملة.
  • إنهاء الاعتقال الغير قانوني و الحبس الانفرادي.
  • إلغاء التشريعات التي تسمح بالحبس التعسفي و بإنشاء محاكم لا تسمح بالاستئناف القضائي العادي.
  • دعوة آليات حقوق الإنسان التي أرستها الأمم المتحدة لفحص ما لديها من وسائل الوقاية من التعذيب و غيره من سبل إساءة المعاملة. كما تناشد هيومان رايتس ووتش مانحي المعونات لمصر بـ:
  • شجب تجريم السلوك الجنسي المثلي الذي يتم بالتراضي بين طرفيه في مصر، وشجب ما يصحبه من ايقاع في الفخ و تعذيب.
  • مطالبة الحكومة المصرية بتقديم تقارير عن الخطوات الملموسة التي تتخذها الحكومة لإنهاء الممارسات المؤذية و تحسين سجل حقوق الإنسان لديها.
  • ضمان أن جميع أنواع المعونات أو البرامج التدريبية التي تقدم لموظفي القضاء الجنائي المصريين تشمل مكون حقوق الإنسان، وتشمل أيضا قضايا الطبيعة الجنسية و الاتجاهات الجنسية بطريقة مصممة بحيث تنهي التحيز ضدها ووصمها بالعار.
  • ضمان أن الدعم أو المعونات التكنولوجية لا تسهم في تعقب أو اضطهاد الجماعات الضعيفة، كالرجال الذين يمارسون الجنس مع رجال. التوصيات المفصلة مذكورة في خاتمة هذا التقرير.
  • << السابق    الفهرس    التالي>>