Israel, the Occupied West Bank, and Gaza Strip, and Palestinian Authority Territories


اسرائيل والسلطة الفلسطينية Israel,  and Palestinian Authority
  
لحظة واحدة تمحو كل شيء:
التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين

محتويات التقرير :-
  • ملخص
  • التوصيات
    الفصل الرابع
  • المعايير القانونية
  • الانتقام وأعمال الردع
  • هوامش الفصل الرابع
    الفصل السابع
  • دور السلطة الفلسطينية
  • مدفوعات السلطة الفلسطينية للمسلحين
  • خلاصة
  • ملحق
  • هوامش الفصل السابع

    يتضمن الجزء المترجم للعربية من هذا التقرير , الملخص والتوصيات والفصل الرابع والفصل السابع مع هوامش كل منهما "حيث تعتبر مكملة لهما" و هذه الاجزاء مقسمة على النحو الوارد اعلاه

    اقرأ ايضا
  • مركز العاصفة:
    دراسة حالة لانتهاكات حقوق الإنسان في منطقة الخليل
  • الأمم المتحدة: تقرير "معيب" عن الأحداث في جنين
  • لا بد من التحقيق في جرائم الحرب في جنين

  • الفصل السابع
    دور السلطة الفلسطينية


    من بين أشد المسائل إثارة للجدال في النقاش الدائر حول الهجمات الانتحارية الفلسطينية على المدنيين الإسرائيليين الدور الذي تقوم به السلطة الفلسطينية، وخصوصاً الرئيس عرفات، إن كان لهما أي دور على الإطلاق. إذ تتهم إسرائيل السلطة الفلسطينية بإصدار الأوامر بممارسة "الإرهاب" والمشاركة فيها بصورة منهجية؛ وتطلق إسرائيل تعبير "الإرهاب" على جميع الأنشطة المسلحة ضد الأهداف الإسرائيلية، سواء العسكرية أم المدنية، وتحمِّل السلطة الفلسطينية المسؤولية كلما وقع هجوم ما، في حين تنفي السلطة الفلسطينية أي دور لها في الهجمات التي تستهدف المدنيين.

    وكانت السلطة الفلسطينية قد اضطلعت، بموجب بنود اتفاقات أوسلو، بالمسؤولية عن تنفيذ القانون في المناطق التي تولت السيطرة عليها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي تحديداً المدن الكبرى والتجمعات السكانية الفلسطينية؛ وكانت هذه المناطق تمثل وقت تفجر المصادمات في سبتمبر/أيلول 2000 قرابة 26 في المائة من مساحة الضفة الغربية و60 في المائة من مساحة قطاع غزة.(1) ومن ثم فقد كان لزاماً على السلطة الفلسطينية أن تتخذ كل الإجراءات المتاحة والفعالة، والتي تتفق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، لمنع المجموعات المسلحة التي تعمل انطلاقاً من هذه المناطق من شن هجمات انتحارية أو غيرها من الهجمات على المدنيين.

    وقد وجدت منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" أن هناك خطوات كان بمقدور السلطة الفلسطينية اتخاذها لمنع مثل هذه الهجمات أو ردع مرتكبيها، لكنها ظلت غير مستعدة للمخاطرة بتحمل الثمن السياسي المترتب على اتخاذ إجراء حاسم. لقد جرت العادة بالسلطة الفلسطينية أن تتقاعس عن التحقيق مع الأشخاص الذين يُعتقد أنهم مسؤولون عن هذه الهجمات، والقبض عليهم، ومحاكمتهم، ولم تتخذ أي خطوات مقنعة لتأنيب أفراد أجهزتها الأمنية الذين خالفوا سياستها المعلنة من خلال المشاركة في مثل هذه الهجمات، أو تأديبهم، أو تقديمهم إلى ساحة العدالة. وفضلاً عن ذلك، فقد تقاعس الرئيس عرفات دوماً عن الإصرار على عدم إطلاق أوصاف تنطوي على الإجلال والتكريم على من يلاقون حتفهم خلال شن هجمات على المدنيين دونما تمييز، مثل تعبير "الشهيد" - الذي يطلقه الفلسطينيون على من يلقون حتفهم أثناء الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية أو المستوطنين - رغم إدانته المتكررة للهجمات الانتحارية على المدنيين.

    يُضاف إلى ذلك أن الرئيس عرفات وغيره من كبار المسؤولين أقروا في عدة حالات دفع مبالغ لأفراد من المعلوم أنهم شاركوا في هجمات على مدنيين إسرائيليين في الأراضي المحتلة، كما أقروا في عدد أكبر من الحالات بدفع مثل هذه المبالغ دونما اعتبار فيما يبدو لما يُعرف أو يُزعم من ضلوع الأفراد المعنيين في هجمات على المدنيين. وكما أوضحنا آنفاً لم يتخذ الرئيس عرفات والسلطة الفلسطينية أي خطوات لضمان ألا تستفيد أسر المفجرين الانتحاريين الذين هاجموا المدنيين من معونات الرعاية الاجتماعية التي تدفعها السلطة الفلسطينية وغيرها. بل وتوحي وثيقة أعلنتها الحكومة الإسرائيلية، نشير إليها لاحقاً باسم "المذكرة المقدمة إلى الطيراوي"، باحتمال أن يكون لواحد على الأقل من كبار مسؤولي المخابرات الفلسطينية رأي إيجابي في منفذي الهجمات على المدنيين.(2)

    لقد ساهم تقاعس السلطة الفلسطينية عن التحرك بأسلوب فعال ودؤوب ضد الهجمات الفلسطينية على المدنيين في إشاعة مناخ يتيح إفلات منفذي هذه الهجمات من العقاب، ويسمح من ثم للمجموعات المسلحة بالاعتقاد بأنه لن تكون هناك عواقب خطيرة بالنسبة لمن يخططون أو ينفذون هجمات تُعد من قبيل جرائم الحرب، وتُعد في حالة التفجيرات الانتحارية من قبيل الجرائم ضد الإنسانية. ويلقي هذا التقاعس على عاتق الرئيس عرفات وقيادة السلطة الفلسطينية قدراً كبيراً من المسؤولية السياسية عما نجم عن ذلك من وفاة كثير من المدنيين.

    إلا أن منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" لم تجد، استناداً للأدلة المتوفرة حتى نهاية سبتمبر/أيلول، أي دليل يفيد بأن الرئيس عرفات أو غيره من كبار مسؤولي السلطة الفلسطينية أمروا بالقيام بتفجيرات انتحارية أو غيرها من الهجمات ضد المدنيين أو خططوا لمثل هذه الهجمات أو نفذوها. وعلى الرغم من أن كبار مسؤولي السلطة الفلسطينية عززوا مناخ الإفلات من العقاب، فلم نجد أيضاً دليلاً على أنهم أقروا القيام بهجمات محددة أو الهجمات على المدنيين على وجه العموم، أو على أن مسؤولين من السلطة الفلسطينية أو مؤسسات تابعة لها نظموا أو ساعدوا في إعداد أو تنفيذ هجمات على المدنيين بصورة منهجية أو كسياسة متبعة. وتوحي "المذكرة المقدمة إلى الطيراوي" بأن بعض كبار مسؤولي السلطة الفلسطينية، على أقل تقدير، كانوا يستحسنون مثل هذه الهجمات، إلا أن السلطة الفلسطينية والقيادة السياسية لفتح لم تكن لهما، كما أوضحنا في الفصل الخامس، السيطرة الفعالة على أفعال كتائب شهداء الأقصى، وهي السيطرة التي تُعدُّ ركناً اساسياً لتحميلهما المسؤولية الجنائية بموجب مبدأ مسؤولية القيادة.

    الدور الأمني للسلطة الفلسطينية منذ سبتمبر/أيلول 2000

    تقضي عملية أوسلو بأن من بين الوظائف الرئيسية للسلطة الفلسطينية الحفاظ على القانون والنظام، ومنع الهجمات المسلحة على الإسرائيليين أو الأهداف الإسرائيلية، وتقديم المتهمين بارتكاب مثل هذه الهجمات إلى ساحة العدالة. وقد رفضت بعض الجماعات الفلسطينية المسلحة اتفاق أوسلو لأسباب منها أنه يشترط نبذ المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي.
    ومع اتساع نطاق الصراع وتزايد عدد الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين تناقصت أنباء الاعتقالات التي قامت بها قوات الأمن الفلسطينية.(22) وفي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2000 نُقل عن أحمد عبد الرحمن، الأمين العام لمجلس وزراء السلطة الفلسطينية ومستشار عرفات، قوله إن السلطة الفلسطينية والمعارضة الإسلامية "تقاتلان من نفس الخندق."(23) وفي أواسط أبريل/نيسان 2001 أكدت السلطة الفلسطينية أنها أفرجت عن محمد ضيف الذي ظل مسجوناً منذ عام 1996 لدوره في التفجيرات الانتحارية التي قامت بها "حماس" في فبراير/شباط من ذلك العام، إلا أن المسؤولين أصروا على أنه ما زال تحت سيطرتهم في "مكان آمن حيث لا يمكن أن تصل إليه يد السلطات الإسرائيلية
    وشهدت فترة إجراء المفاوضات بعد أوسلو قدراً كبيراً من التعاون بين قوات الأمن الإسرائيلية والفلسطينية، وخصوصاً في أعقاب حملة تفجيرات انتحارية قامت بها "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في عامي 1996 و1997. وخلال هذه الفترة اتخذت السلطة الفلسطينية، حسب معظم المراقبين، خطوات مقنعة وملموسة لمنع الهجمات على الأهداف الإسرائيلية.(3) فقد كتب إيلي كارمون، وهو محلل إسرائيلي متخصص في شؤون مكافحة الإرهاب، معلقاً على تراجع هجمات "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في تلك الفترة أنه "يرجع إلى السياسة الوقائية لمكافحة الإرهاب التي اتبعتها السلطة الفلسطينية وإسرائيل معاً."(4) وأشار يورام شفايتزر، وهو محلل إسرائيلي آخر، كمثال على هذا التعاون، إلى قيام قوات الأمن الفلسطينية بإحباط محاولة "لحماس" لتنفيذ هجمات في المدن الإسرائيلية من خلال القبض على اثنين من القادة في نابلس في مارس/آذار.(5) وقال مسؤول كبير في "جهاز الأمن الوقائي" بالضفة الغربية لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان": "كان عاما 1999 و2000 أفضل عامين على الإطلاق من وجهة النظر الأمنية. عندما كان التعاون ناجحاً تلقينا المساعدة من الإسرائيليين ـ أشخاص من أمثال [رئيس جهاز شين بيت السابق] عامي أيالون، و[رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق اللفتنانت جنرال أمنون] شاحاك، و[وزير العدل السابق يوسي] بيلين، و[شيمون] بيريز العجوز."(6) وأكد رمضان شلح الأمين العام "لحركة الجهاد الإسلامي" هذا التقييم على ما يبدو فيما يتعلق بمنظمته. فقد كتب في مارس/آذار 2002 أن اتفاقات أوسلو هدمت أسس المقاومة الفلسطينية وأن الحركة الإسلامية دخلت في فترة أزمة أدت تقريباً إلى انهيار بنيتها التحتية العسكرية، حيث فقدت معظم مواردها البشرية والمالية.(7)

    ومع تدهور العلاقات السياسية الإسرائيلية الفلسطينية وبدء الاضطرابات الحالية تقلص التعاون بين قوات الأمن الإسرائيلية والفلسطينية بسرعة. ومن البداية اتهمت السلطات الإسرائيلية السلطة الفلسطينية، والرئيس عرفات شخصياً بالمسؤولية المباشرة عن الهجمات على الإسرائيليين. فعلى سبيل المثال بعد تفجير عبوة ناسفة على جانب أحد الطرق أدت إلى مقتل اثنين من المدنيين وإصابة تسعة آخرين بجروح خطيرة، من بينهم خمسة أطفال، في حافلة مدرسية مصفحة أثناء مرورها قرب مستوطنة كفار داروم في قطاع غزة في 20 نوفمبر تشرين الثاني عام 2000، حمل رئيس الوزراء آنذاك إيهود باراك عرفات وفتح المسؤولية، وعلى سبيل الانتقام أمر المروحيات والسفن الحربية التابعة للجيش الإسرائيلي بقصف مقار السلطة الفلسطينية وفتح ومكاتب "جهاز الأمن الوقائي" في مدينة غزة.(8) ومن جانبهم أنحى كثير من الفلسطينيين باللائمة على السلطة الفلسطينية في عدم حمايتهم من هجمات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين الإسرائيليين في الأراضي المحتلة.

    واستمر تبادل الاتهامات وتصاعد العنف؛ فعلى الجانب الفلسطيني تراجع رشق نقاط التفتيش التابعة للجيش الإسرائيلي بالحجارة ليخلي الساحة لإطلاق النار على المدنيين في الطرق وعلى الأهداف العسكرية، ثم أخيراً، للهجمات التي تُستخدم فيها التفجيرات الانتحارية وإطلاق النار على المدنيين وكذلك على الأهداف العسكرية. وعلى الجانب الإسرائيلي تفاقم استخدام القوة دون تمييز و/أو الإفراط في استخدامها من خلال فرض قيود متزايدة القسوة على حرية الانتقال، واتباع سياسة اغتيال من يُزعم أنهم من أعضاء الجماعات المسلحة، وعمليات الاجتياح المتكررة للمناطق التابعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، وأخيراً، إعادة احتلال هذه المناطق بالكامل عسكرياً.

    ومع استمرار تصاعد العنف إلى مستويات جديدة واصلت السلطة الفلسطينية الإدانة العلنية للهجمات المسلحة التي تستهدف المدنيين عمداً، إلا أنها لم تتخذ إجراءات واضحة أو مقنعة لمنع مثل هذه الهجمات أو معاقبة المسؤولين عنها، باستثناء فترة قصيرة من أواسط ديسمبر/كانون الأول 2001 إلى أواسط يناير/كانون الثاني 2002. وكان تقاعس السلطة الفلسطينية عن التحرك راجعاً، على الأقل في جانب منه، إلى عدم استعدادها للتصدي للمنظمات التي تنفذ مثل هذه الهجمات والتي تتمتع بقدر كبير من التأييد الشعبي الفلسطيني وخصوصاً في ضوء تزايد عدد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين.

    والجهاز الرئيسي من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية المسؤول عن تنفيذ التزاماتها فيما يخص مكافحة العنف المضاد لإسرائيل هو "جهاز الأمن الوقائي". وللجهاز قيادتان منفصلتان إحداهما في قطاع غزة والأخرى في الضفة الغربية، وكان يضم في ذروته ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف ضابط معظمهم من مقاتلي فتح السابقين. وتلقى بعض ضباط "جهاز الأمن الوقائي" تدريبات على أيدي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.(9) إلا أنه لا يكاد أحد من المراقبين يعتبره من هيئات تنفيذ القانون ذات الاحتراف المهني.(10) وواقع الأمر أن "جهاز الأمن الوقائي" و"جهاز المخابرات العامة" وغيرهما من أجهزة الأمن الفلسطينية كانت بمثابة بنك للوظائف في متناول الزعيم الفلسطيني إضافة إلى قيامها بمهام الشرطة، والمخابرات، والمهام القسرية. ويرجع

    تقاعس السلطة الفلسطينية عن اتخاذ إجراءات فعالة لمنع الهجمات الانتحارية التي تستهدف المدنيين وتقديم المسؤولين عنها إلى ساحة العدالة إلى الأشهر الأولى للاضطرابات الحالية. غير أنه مع استمرار المصادمات وتصاعدها ضعفت قدرات السلطة الفلسطينية في مجال تنفيذ القانون بالتدريج نتيجة الهجمات الإسرائيلية التي تستهدف البنية الأساسية لأجهزة الأمن الفلسطينية، وأماكن الاحتجاز، وأفراد الأمن، إضافة إلى حظر التجول وفرض القيود الصارمة على حرية الانتقال.

    وقد نُفذت هذه الهجمات على وجه العموم انتقاماً من الهجمات الفلسطينية على الأهداف الإسرائيلية. ففي 18 مايو/أيار 2001، مثلاً، هاجمت إسرائيل المنشآت الأمنية للسلطة الفلسطينية في مدينة غزة، ونابلس، ورام الله، وطولكرم، في أعقاب تفجير انتحاري "لحماس" قُتل فيه خمسة أشخاص وأُصيب ما يزيد على مائة آخرين في نتانيا. وفي نابلس قصفت طائرات حربية من طراز إف-16 مجمع السجون الرئيسي مما أدى إلى مقتل 11 شرطياً.(11) وفي مقابلة صحفية في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2001 قال قائد "جهاز الأمن الوقائي" جبريل الرجوب إن ما يزيد على 70 في المائة من مكاتب الجهاز و90 في المائة من ثكناته قد دُمر.(12) وكتب المحلل العسكري الإسرائيلي غال لوفت في أعقاب "عملية السور الواقي" التي قامت بها القوات الإسرائيلية قائلاً: "استهدف الجيش الإسرائيلي منشآت جهاز الأمن الوقائي في هجماته الانتقامية ضد الإرهاب الفلسطيني فدمر كل مقرات الجهاز تقريبا ومكاتبه وقواعد التدريب التابعة له وسياراته."(13) ورأى كثير من الإسرائيليين، وكذلك الفلسطينيين، أن هذه الهجمات تمثل سياسة للحكومة الإسرائيلية ترمي إلى إضعاف السلطة الفلسطينية إلى حد الانهيار. وفي 17 يوليو/تموز 2002 قال وزير الأمن العام عوزي لانداو بعد هجوم انتحاري في تل أبيب "سندخل مناطقهم ونحطم جهاز الأمن الفلسطيني برمته لنحقق انهيار السلطة الفلسطينية."(14)

    وفي 4 سبتمبر/أيلول 2002 قال الرئيس عرفات خلال اجتماع مع وزير الخارجية الدنمركي بير شتيغ مولر إن الفلسطينيين قادرون على السيطرة التامة على الوضع الأمني في مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية.(15) بيد أن وزير الداخلية الفلسطيني عبد الرزاق اليحيى قال لوكالة رويترز، متحدثاً في اليوم السابق، ومعبراً عن تقييم أقل تفاؤلاً يشاركه فيه الكثير من المراقبين الخارجيين، إن أجهزة الأمن الفلسطينية "تواجه صعوبة كبيرة" في استعادة السيطرة على الوضع الأمني.(16)

    تقاعس السلطة الفلسطينية عن تقديم مصدري الأوامر بتنفيذ الهجمات الانتحارية على المدنيين، ومدبريها، والمشاركين فيها إلى ساحة العدالة

    على الرغم من أن سلطة الحكم القانونية للسلطة الفلسطينية مستمدة من اتفاقات أوسلو الموقعة مع إسرائيل، فواجب منع الهجمات المنظمة التي تستهدف المدنيين وبلا تمييز ليس مشروطاً بالتزام إسرائيل بتلك الاتفاقات، ولا يبطله ما تعتبره السلطة الفلسطينية انتهاكات إسرائيلية للاتفاقات. ولا يجوز اتخاذ هذا الواجب ورقة للمساومة بحيث يخضع القيام به للمفاوضات السياسية. فالسلطة الفلسطينية، باعتبارها السلطة السياسية القائمة، تتحمل المسؤولية عن تقديم من يأمرون بشن هجمات على المدنيين، أو يخططون لهذه الهجمات، أو ينفذونها إلى ساحة العدالة. وقد تقاعست السلطة الفلسطينية عن النهوض بهذا الواجب.

    وفي الحالات التي قامت فيها السلطة الفلسطينية باعتقال بعض الأفراد، كانت عمليات الاعتقال تتم بلا تمييز وتركز على جمع أنصار هذه أو تلك من الجماعات المسلحة دون اعتبار لأي إعلان عن المسؤولية عن الجرائم الخطيرة المرتكبة باسم هذه الجماعة. وبدلاً من التحقيق مع المعتقلين كان الأشخاص المشتبه بهم يُحتجزون عادة دون تهمة ثم يُفرج عنهم في وقت لاحق. وقد فسرت السلطة الفلسطينية الإفراج عن هؤلاء المعتقلين بأنه يتم توقياً للخطر الناجم عن القصف الإسرائيلي لأماكن الاحتجاز، إلا أنها لم تحاول تفسير سبب عدم التحقيق مع الأشخاص المشتبه بهم، أو اتهامهم، أو تقديمهم إلى المحاكمة.

    ويزعم مسؤولو السلطة الفلسطينية أيضاً أن ما تقوم به إسرائيل من أعمال، مثل تدمير المنشآت الخاصة بالشرطة وأجهزة الأمن الفلسطينية، قوض قدرة السلطة الفلسطينية على التحرك. غير أن سجل السلطة الفلسطينية يشير إلى أنها لم تحاول في الأغلب والأعم ممارسة قدرتها على منع هذه الجرائم أو معاقبة مرتكبيها حتى عندما كانت تملك القدرة على القيام بذلك. وقد ظلت السلطة الفلسطينية محتفظة إلى حد ما بقدرتها على تنفيذ القانون إلى أن أعاد الجيش الإسرائيلي احتلال المدن والبلدات الفلسطينية في أبريل/نيسان 2002، إن لم تكن قد استمرت بعد ذلك أيضاً. وفي يونيو/حزيران 2001، ثم مرة أخرى في أواسط ديسمبر/كانون الأول 2001، أظهرت السلطة الفلسطينية أنها ما زالت تحظى بقدر كاف من النفوذ لدى المجموعات المسؤولة عن الهجمات، فاستخدمت المفاوضات السياسية إضافة إلى إجراءات تنفيذ القانون القسرية لوقف التفجيرات الانتحارية، على الرغم من أن قدراتها في مجال تنفيذ القانون كانت قد تقلصت بفعل الهجمات الإسرائيلية.

    ويسلط النجاح النسبي الذي حققه تدخل السلطة الفلسطينية لدى المجموعات المسلحة ومؤيديها في الفترة بين ديسمبر/كانون الأول 2001 ويناير/كانون الثاني 2002 الضوء على عدم قيامها بجهد منسق مماثل في أوقات أخرى، وخصوصاً خلال أشهر العنف التي سبقت مبادرة ديسمبر/كانون الأول 2001. وقد ساهم هذا التقاعس عن اتخاذ خطوات متواصلة ومقنعة للتصدي لهذه الهجمات في إشاعة مناخ الإفلات من العقاب وهيأ الساحة لتصعيد مثل هذه الهجمات في الفترة بين أواخر يناير/كانون الثاني وأوائل أبريل/نيسان 2002.

    وقد أفرجت السلطة الفلسطينية في الأسابيع الأولى من المصادمات عن الكثير من المحتجزين معظمهم من أعضاء "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وبعضهم ممن قضوا عدة سنوات محتجزين لدى السلطة الفلسطينية دون تهمة أو محاكمة.(17) وتفيد الأنباء الصحفية الواردة أن حالات الإفراج الأولى تمت يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول عام 2000 عندما أُطلق سراح 12 محتجزاً من أعضاء حماس من سجن غزة المركزي؛ وأُطلق سراح بعض المحتجزين الآخرين على مدى الأسبوع التالي. وزعم أحد مسؤولي الأمن التابعين للسلطة الفلسطينية في غزة أن السلطة بدأت قبل أواسط أكتوبر/تشرين الأول في اعتقالهم من جديد.(18) وفي نابلس ورد أن 14 ممن أُفرج عنهم استجابوا لاستدعاءات تدعوهم لتسليم أنفسهم من جديد. وأُلقي القبض مرة أخرى على الزعيم السياسي لحماس عبد العزيز الرنتيسي في 18 أكتوبر/تشرين الأول ثم أُفرج عنه من جديد في ديسمبر/كانون الأول 2000 في نهاية شهر رمضان.(19)

    وأشارت "حركة الجهاد الإسلامي" إلى الإفراج عن هؤلاء المحتجزين على أنه من العوامل التي ساهمت في قدرة الحركة على تنفيذ هجمات على أهداف إسرائيلية. وقد تعرض الجناح العسكري للحركة، وفقاً لبيان منشور في موقعها على الإنترنت، "لضربات مؤلمة أدت إلى انهياره"؛ ويضيف البيان قائلاً: "إن المد الجماهيري للانتفاضة الحالية وخروج عدد من المجاهدين من سجون السلطة [الفلسطينية] وسعي الحركة لإعادة بناء قوتها العسكرية عجل من إنشاء جهاز عسكري جديد ولكن تحت مسمى 'سرايا القدس'".(20) وفي أوائل يونيو/حزيران 2001 قدمت إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية، حسبما ورد، قوائم بأسماء أشخاص قالت إنهم مسؤولون عن شن هجمات على المدنيين وعلى أهداف عسكرية، ومن بينهم، وفقاُ لبعض الأنباء الواردة، قرابة مائة ممن أُفرج عنهم من حجز السلطة الفلسطينية.(21)

    ومع اتساع نطاق الصراع وتزايد عدد الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين تناقصت أنباء الاعتقالات التي قامت بها قوات الأمن الفلسطينية.(22) وفي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2000 نُقل عن أحمد عبد الرحمن، الأمين العام لمجلس وزراء السلطة الفلسطينية ومستشار عرفات، قوله إن السلطة الفلسطينية والمعارضة الإسلامية "تقاتلان من نفس الخندق."(23) وفي أواسط أبريل/نيسان 2001 أكدت السلطة الفلسطينية أنها أفرجت عن محمد ضيف الذي ظل مسجوناً منذ عام 1996 لدوره في التفجيرات الانتحارية التي قامت بها "حماس" في فبراير/شباط من ذلك العام، إلا أن المسؤولين أصروا على أنه ما زال تحت سيطرتهم في "مكان آمن حيث لا يمكن أن تصل إليه يد السلطات الإسرائيلية."(24) ولم يدل أحد بمثل هذه الادعاءات عندما أفلت ضيف من الموت بأعجوبة في هجوم صاروخي إسرائيلي استهدفه أثناء انتقاله بسيارة في مدينة غزة يوم 26 سبتمبر/أيلول 2002.(25)

    وتعرض بعض المحتجزين ممن أُفرج عنهم في بداية الانتفاضة، وكذلك غيرهم من المتشددين المسلحين، والساسة ممن يتعرضون بالانتقاد للسلطة الفلسطينية، للاعتقال من جديد ثم الإفراج عنهم بصفة دورية خلال عام 2001. وقد أُلقي القبض على بعضهم بصفة رسمية، كما بدأت السلطة الفلسطينية في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2001 تستخدم أوامر الاعتقال الإداري في احتجاز المشتبه بهم. ومع ذلك فقد استمر الأفراد المعروف أنهم زعماء مجموعات مسؤولة عن شن هجمات على المدنيين يعملون علناً في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك عاطف عبيات زعيم "كتائب شهداء الأقصى" في منطقة بيت لحم الذي ظل يعمل علناً حتى وهو محتجز نظرياً رهن "الإقامة الجبرية" في منزله. وفي غزة أصدرت السلطة الفلسطينية في أكتوبر/تشرين الأول 2001 أمراً بالقبض على عبد الله الشامي الذي يُعرف عنه أنه القائد العسكري "للجهاد الإسلامي"، إلا أنه لم يُعتقل إلا في 8 يونيو/حزيران 2002 (انظر أدناه).

    ولم تتضمن تلك الإجراءات التي اتخذتها السلطة الفلسطينية للحد من الأنشطة المسلحة جهوداً جادة لتقديم مرتكبي الهجمات الانتحارية التي تستهدف المدنيين إلى العدالة. ففي أعقاب الهجوم الذي وقع على حوض الدلافين في 1 يونيو/حزيران 2001، على سبيل المثال، أصدر الرئيس عرفات بياناً قال فيه إنه سيقوم بكل ما هو لازم لتحقيق وقف حقيقي وفعال وفوري وغير مشروط لإطلاق النار، وإن السلطة الفلسطينية ستنفذه بالقوة إذا لزم الأمر.(26) وقال مسؤولو الأمن الفلسطينيون في ذلك الوقت إنهم عززوا الدوريات في شتى أنحاء المناطق الواقعة في نطاق مسؤوليتهم. إلا أنهم أوضحوا أنهم لا يعتزمون إلقاء القبض على أي شخص من بين العدد الكبير من أعضاء الجماعات المسلحة "المطلوبين" لدى إسرائيل والذين كان بعضهم، حسبما زُعم، مسؤولين عن شن هجمات على المدنيين.(27) وقال نبيل شعث، وزير التخطيط والتعاون الدولي في السلطة الفلسطينية، يوم 7 يونيو/حزيران 2001، إنه تم اعتقال شخصين يُشتبه في ضلوعهما في هجوم حوض الدلافين، إلا أنه أوضح أن حالات الاعتقال ستقتصر على من ينتهكون وقف إطلاق النار الذي أُعلن أخيراً. وقال شعث "لا أعتقد أننا يجب أن نعتقل الناس وحسب... ما لم تكن لدينا معلومات حقيقية، معلومات مؤكدة بأن بعض الناس يعدون شيئاً ما."(28) وذهب قائد "الأمن الوقائي" في الضفة الغربية جبريل الرجوب خطوة أبعد بقوله "لن نعتقل أي فلسطيني شارك في المقاومة قبل وقف إطلاق النار."(29) وحتى في الحالات التي اعتُقل فيها بعض الأشخاص لم تتوفر أدلة تُذكر تشير إلى التحقيق مع الأفراد المسؤولين عن هجمات انتحارية استهدفت المدنيين، أو اتهامهم، أو محاكمتهم.

    وفي أواخر سبتمبر/أيلول 2001 سلمت الحكومة الإسرائيلية السلطة الفلسطينية من جديد قوائم بأسماء الأشخاص الذين تريد اعتقالهم. وبدأت السلطة الفلسطينية جولة جديدة من عمليات الاعتقال، غير أنه لم يكن واضحاً إن كان من اعتقلتهم ممن وردت أسماؤهم في القوائم. وأثارت عمليات الاعتقال مقاومة عنيفة. ففي منطقة رفح بجنوب قطاع غزة أضرمت حشود من المواطنين النار في مكاتب مخابرات السلطة الفلسطينية. وفي بيت لحم اعتُقل عاطف عبيات زعيم "كتائب شهداء الأقصى" يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن ذلك لم يتم إلا بعد مفاوضات مطولة مع أنصار عبيات المسلحين، ولم يُحتجز إلا لفترة قصيرة على الرغم من أن الرئيس عرفات أمر حسبما ورد بإبقائه رهن الاحتجاز.(30)

    وخلال زيارة بعثة ميدانية من منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" للضفة الغربية في يناير/كانون الثاني 2002 قال بعض دعاة حقوق الإنسان المحليين إن كثيراً ممن أُلقي القبض عليهم في أواخر عام 2001 اعتُقلوا لقيامهم بأنشطة سياسية محدودة المستوى ولم يكن لسوى القليل منهم أدوار مهمة في مجموعات مسلحة، ولم توجه اتهامات رسمية إلا لأقل القليل منهم. وفي الحالات التي ألقت فيها السلطة الفلسطينية القبض على بعض الأشخاص كان ذلك بوجه عام عقب هجمات انتحارية تستهدف المدنيين، وجاء فيما يبدو استجابة لضغوط من إسرائيل والمجتمع الدولي. وكان المعتقلون في معظم الأحيان من المعروفين بانتمائهم إلى المجموعة التي أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم أو من أنصارها وليسوا أفراداً يُشتبه فعلياً في أنهم أمروا بشن الهجوم، أو خططوا له، أو ساعدوا على تنفيذه. وفي استثناء لهذا النمط اعتقلت قوات الأمن الفلسطينية في غزة في الآونة الأخيرة اثنين من أعضاء "الجهاد الإسلامي"، أحدهما عبد الله الشامي الذي يُعرف عنه أنه زعيم الجناح العسكري للحركة، والذي كان قد صدر أمر بإلقاء القبض عليه في أكتوبر/تشرين الأول 2001. وجاء اعتقالهما بعد أن أعلنت الحركة مسؤوليتها عن تفجير حافلة مدنية قرب مجدو مما أسفر عن مقتل 13 من جنود الجيش الإسرائيلي وأربعة من المدنيين في 5 يونيو/حزيران 2002.

    وقوبلت محاولات القبض على مرتكبي الهجمات في كثير من الأحيان بمقاومة كبيرة من أنصار أعضاء الجماعات المسلحة؛ وأبلغ بعض سكان جنين منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" بأنه عندما ألقى "جهاز الأمن الوقائي" في نابلس القبض في نوفمبر/تشرين الثاني 2001 على محمود الطوالبة، وهو من زعماء "الجهاد الإسلامي" ومن مخيم جنين للاجئين، تظاهر المحتجون أمام مقر "جهاز الأمن الوقائي" في جنين وقلبوا السيارات وهددوا باقتحام المبنى. وقال أبو أنطون، وهو زعيم في مخيم جنين، متحدثاً لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان": "خرج المخيم بأكمله، حتى فتح، لمعارضة هذا. ربما كانت الاتهامات الموجهة إليه صحيحة، لكننا سنفعل الأمر نفسه بالنسبة لأي شخص بغض النظر عن انتمائه."(31) وأبلغت أم الطوالبة منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" بأنه سقط في "كمين" للأمن الوقائي في نابلس وقضى ثلاثة أشهر في السجن هناك. وقالت بفخر "إن [مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية جورج] تينيت تأكد من اعتقاله بنفسه." وأضافت "لكن عندما هاجمت إسرائيل السجن انصرف السجانون وهرب السجناء وعاد محمود إلى جنين."(32)

    وأبلغ حيدر أرشيد القائم بأعمال محافظ جنين منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" في يونيو/حزيران 2002 أن أول وآخر مرة ألقت فيها السلطة الفلسطينية القبض على متشددين مسلحين في جنين كانت في أغسطس/آب 2001 عندما قاد قوة تضم قرابة مائة من أفراد الأمن لإلقاء القبض على مجموعة تضم ثمانية من نشطاء "الجهاد الإسلامي" في مخيم جنين للاجئين. وقال "كنت أعرف من الذين نريدهم وقد أخذناهم. زرت عرفات في رام الله وأبلغته بخصوص الوضع هنا. سألني 'كم تحتاج؟ كم من الوقت؟ وقد فعلناها في اليوم التالي. وحتى ذلك الوقت لم تتم أي عملية من هذا النوع في كل الضفة الغربية."(33) ولم يفسر أرشيد سبب عدم القيام بجهود أخرى في مجال عمل الشرطة قبل هذه المبادرة التي نسب إلى نفسه فضل القيام بها، وبدلاً من ذلك أنحى باللائمة في غياب مبادرات تنفيذ القانون من جانب السلطة الفلسطينية على ما تفرضه إسرائيل من قيود وتدميرها لأماكن الاحتجاز.

    وفي ديسمبر/كانون الأول 2001 وأوائل يناير/كانون الثاني 2002 برز اقوى دليل على أن السلطة الفلسطينية ما زالت تحتفظ ببعض القدرة على تنفيذ القانون فيما يتعلق بالهجمات التي تستهدف المدنيين، عندما قامت السلطة الفلسطينية، خلافاً لما كان عليه الحال في الفترات السابقة، بجهود متواصلة لوقف التفجيرات الانتحارية والهجمات الفلسطينية عموماً. فرداً على سلسلة من الهجمات الفلسطينية على المستوطنين والمدنيين في إسرائيل والأهداف العسكرية، أمر الرئيس عرفات "جهاز الأمن الوقائي" في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2001 بإلقاء القبض على عدد من أعضاء "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"كتائب شهداء الأقصى". وفي 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2001 قالت السلطة الفلسطينية في أعقاب تفجير انتحاري لحافلة مدنية في شمال إسرائيل إنها تؤكد مجدداً أنها تعمل بكل طاقتها على وضع نهاية لكل أنواع الهجمات على المدنيين الإسرائيليين.(34) وبعد هجومين انتحاريين شنتهما "حماس"، قُتل في أولهما عشرة أشخاص في القدس في 1 ديسمبر كانون الأول، ووقع الثاني في اليوم التالي في حيفا وأودى بحياة 15 شخصاً، أعلن عرفات حالة الطوارئ، قائلاً إن "أي حركة أو تنظيم أو تجمع" ينتهك وقف إطلاق النار الذي كان قد أعلنه قبل بضعة أيام سيُعتبر غير شرعي، وأمر بمصادرة الأسلحة غير المرخصة، وصرح بأن قوات الأمن الفلسطينية ألقت القبض على زهاء 90 شخصاً على مدى الأيام العديدة السابقة (35). وأدت محاولات ضباط "جهاز الأمن الوقائي" إلقاء القبض على زعيم "حماس" الشيخ ياسين إلى اشتباكات مع أنصاره قُتل فيها أحد أنصار حماس. وبعد مظاهرات مستمرة سحب جهاز الأمن الوقائي قواته من مقر إقامة ياسين.(36)

    وفي اجتماع عُقد يوم 3 ديسمبر/كانون الأولبعد عودة رئيس الوزراء شارون من زيارة للولايات المتحدة أصدر مجلس الوزراء الإسرائيلي بياناً يعلن فيه أن السلطة الفلسطينية "كيان يدعم الإرهاب" ويفوض رئيس الوزراء القيام بنشاط عسكري "على نطاق أوسع كثيراً" من ذي قبل ضد الفلسطينيين.(37) وشملت الهجمات الإسرائيلية في ذلك اليوم تدمير ثكنات "جهاز الأمن الوقائي" قرب مدينة غزة ومقار السلطة الفلسطينية و"جهاز الأمن الوقائي" وسجن في جنين. وفي اليوم التالي قصف الجيش الإسرائيلي مقر السلطة الفلسطينية في رام الله إلا أنه لم يقصف المبنى الذي يحاصر فيه عرفات.

    وفي 16 ديسمبر/كانون الأول دعا الرئيس عرفات في خطاب متلفز باللغة العربية بمناسبة حلول عيد الفطر إلى الوقف الكامل لكل الأنشطة العسكرية، وخصوصاً الهجمات الانتحارية التي قال إنه أدانها دائماً. وأضاف "لن نقبل أكثر من سلطة واحدة على هذه الأرض وفي هذا المجتمع وهذا الوطن. ..."(38) وتابع عرفات أن السلطة الفلسطينية ستعاقب كل المدبرين والمنفذين وتلاحق كل المنتهكين وصرح بأنه أعلن أن المنظمات الفلسطينية التي تقوم بأنشطة إرهابية غير مشروعة.(39)

    وواصلت السلطة الفلسطينية إغلاق مكاتب "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وقالت يوم 18 ديسمبر/كانون الأول إنها ألقت القبض على ما يربو على 180 فلسطينياً منذ بداية الشهر، لكنها لم تقدم أي معلومات بخصوص التحقيقات أو التهم المتصلة بالمسؤولية عن الهجمات على المدنيين. وفي اليوم التالي، 19 ديسمبر/كانون الأول، أعلنت السلطة الفلسطينية أنها ألقت القبض على 15 من أفراد "جهاز الأمن الوقائي" للاشتباه في مشاركتهم في هجمات على الإسرائيليين.(40)

    وكما حدث في المرات السابقة أثارت هذه التحركات من جانب السلطة الفلسطينية معارضة شعبية اتسم بعضها بالعنف، لكن السلطة الفلسطينية واصلت في هذه المرة حملتها. وأدت جهود السلطة الفلسطينية لإلقاء القبض على الأشخاص الذين يُزعم أنهم من أعضاء الجماعات المسلحة، وإغلاق المؤسسات الخيرية وغيرها من المؤسسات المماثلة المرتبطة "بحماس" و"الجهاد الإسلامي"، وإلقاء القبض على زعيم "حماس" عبد العزيز الرنتيسي إلى اشتباكات استمرت ثلاثة أيام في غزة. وفي 21 ديسمبر/كانون الأول قتلت قوات الأمن الفلسطينية ستة فلسطينيين، في ملابسات تمثل فيما يبدو انتهاكاً للمعايير الدولية لاستخدام الأسلحة النارية، وأصابت زهاء 80 آخرين بجروح حسبما ورد.(41) وفي ذلك اليوم نفسه أعلنت "حماس" أنها ستلتزم بوقف إطلاق النار وأشارت "الجهاد الإسلامي" أيضاً، فيما ورد، إلى أنها ستلتزم به.(42) وفي 22 ديسمبر/كانون الأول ألقت قوات الأمن الفلسطينية في غزة القبض على شادي مهنا الذي يُعرف بأنه من القادة العسكريين "للجهاد الإسلامي"، وعلى محمود جودة أحد كبار مساعديه (43)؛ وألقت السلطة الفلسطينية القبض على مزيد من زعماء "الجهاد الإسلامي" وأعضائها في جنين وأماكن أخرى أيام 5 و6 و10 يناير/كانون الثاني 2002.(44)

    وعلى مدى فترة امتدت أربعة أسابيع من 16 ديسمبر/كانون الأول 2001 إلى 15 يناير/كانون الثاني 2002 لم تقع أي هجمات انتحارية أو غيرها من الهجمات داخل إسرائيل. وقال الجيش الإسرائيلي أن عدة محاولات لمهاجمة مستوطنات وأهداف عسكرية وقعت، لكنه أفاد في 30 ديسمبر/كانون الأول بأن الفترة منذ 16 ديسمبر/كانون الأول شهدت انخفاضاً في الهجمات الفلسطينية بنسبة 50 في المائة.(45) وزعم رئيس الوزراء شارون أن هذا يرجع للأنشطة العسكرية الإسرائيلية وليس لجهود السلطة الفلسطينية.(46)

    ووقع انتهاك لوقف إطلاق النار من الجانب الفلسطيني يوم 9 يناير/كانون الثاني عندما قتل اثنان من مقاتلي "حماس" أربعة جنود إسرائيليين في كمين في إسرائيل قرب الحدود مع غزة انتقاماً، حسبما زعمت "حماس"، من تمثيل الجيش الإسرائيلي بجثث ثلاثة صبية من غزة قُتلوا بقذيفة دبابة إسرائيلية يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 2001.(47) وفي اليوم التالي هدم الجيش الإسرائيلي 59 منزلاً في مخيم رفح للاجئين وأعلنت الفصائل الفلسطينية باستثناء فتح و"كتائب شهداء الأقصى" أنها تعتبر نفسها في حل من الالتزام بوقف إطلاق النار.

    ويوم 14 يناير/كانون الثاني وفي أعقاب اغتيال زعيم "كتائب شهداء الأقصى" في طولكرم رائد الكرمي أعلنت الجماعة أنها ألغت بدورها الالتزام بوقف إطلاق النار. وخطف مسلحون من "كتائب شهداء الأقصى" مستوطناً إسرائيلياً وقتلوه بالرصاص قرب بيت ساحور يوم 15 يناير/كانون الثاني، ويوم 17 يناير/كانون الثاني هاجم مسلح من "كتائب شهداء الأقصى" حفلاً في مدينة الخضيرة الإسرائيلية فقتل ستة أشخاص وجرح عشرات آخرين قبل أن تقتله الشرطة الإسرائيلية بالرصاص. وفي 22 يناير/كانون الثاني أطلق مسلح من "كتائب شهداء الأقصى" النار في القدس الغربية وأصاب 16 إسرائيلياً توفي اثنان منهم في وقت لاحق. واستمر تصاعد العنف من الجانبين وشهدت تلك الفترة وقوع أول تفجير انتحاري في العام الجديد، وهو هجوم أعلنت "حركة الجهاد الإسلامي" مسؤوليتها عنه وقع يوم 25 يناير/كانون الثاني في أحد شوارع تل أبيب وأُصيب فيه 25 شخصاً بعضهم بجروح خطيرة. وفي 27 يناير/كانون الثاني نفذت وفاء إدريس أول تفجير انتحاري تعلن "كتائب شهداء الأقصى" مسؤوليتها عنه وأول هجوم من نوعه تقوم به امرأة.

    وأنحى المسؤولون الفلسطينيون وزعماء فتح باللائمة في انهيار وقف إطلاق النار الذي استمر من ديسمبر/كانون الأول2001 إلى يناير/كانون الثاني 2002 على ما وصفوه بالانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، بما في ذلك عدة عمليات اغتيال ومحاولة اغتيال راح ضحيتها طفلان وعدة عمليات اجتياح قام بها الجيش الإسرائيلي للمناطق التابعة لسيطرة السلطة الفلسطينية انتهت باغتيال الكرمي.(48) وقال مسؤول كبير "بجهاز الأمن الوقائي" لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان" إن وقف إطلاق النار "جاء نتيجة جهود حقيقية من جانب السلطة الفلسطينية. فقد أُغلقت 32 مؤسسة تابعة لحماس والجهاد الإسلامي وسيطرنا على المساجد. طالبنا بسبعة أيام [في إشارة إلى إصرار رئيس الوزراء شارون على "سبعة أيام من الهدوء التام"] وحققنا ثلاثة أسابيع. وقد أمكن ذلك بفضل رجال فتح من أمثال مروان البرغوثي. وكان تعبير إسرائيل عن 'شكرها' هو اغتيال الكرمي. أتعتقدون أن بمقدورنا اعتقال أحد اليوم؟ هذا ضرب من الخيال."(49)

    واعتبر بعض الإسرائيليين أيضاً اغتيال الكرمي نقطة محورية. وكتب ألوف بن المراسل الدبلوماسي لصحيفة هآرتس اليومية الإسرائيلية بعد مدة مسترجعاً أحداث تلك الأيام أن اغتيال الكرمي "كان نقطة التحول في الحرب."(50) وبعد عدة أيام من مقتل الكرمي قالت داليا رابين بيلوسوف التي كانت آنئذ نائب وزير الدفاع الإسرائيلي "في كل مرة يبدو فيها أن هناك نوعاً ما من الهدوء على الأرض يحدث شيء ما، سواء من جانبنا أم من الجانب الآخر. وفي رأيي أننا أضعنا في الآونة الأخيرة فرصة لتحقيق نقطة تحول.(51) وسواء أقبل المرء هذا التحليل أم لا، فقد أدى تصاعد العنف الذي أعقب ذلك إلى التقليص الحاد لقدرة السلطة الفلسطينية على التصدي لمرتكبي الهجمات التي تستهدف المدنيين ومن يرعونها.

    ويزعم مسؤولو السلطة الفلسطينية أنهم كانوا قد أعدوا خططاً لمواصلة حملة الاعتقال التي نفذوها في ديسمبر/كانون الأول 2001 وأوائل يناير/كانون الثاني 2002، إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك بسبب عمليات الاجتياح واسعة النطاق والمتكررة التي قام بها الجيش الإسرائيلي للمدن، ومخيمات اللاجئين، والقرى في الضفة الغربية، وتزايد العداء الشعبي الفلسطيني لأي جهود تبذلها السلطة الفلسطينية لتقييد أنشطة المتشددين المسلحين. وظلوا يكررون هذا الجواب كلما سئلوا عن غياب أي خطوات من جانب السلطة الفلسطينية ضد مرتكبي التفجيرات الانتحارية. وزعم محمد عبد النبي وهو من زعماء فتح في مخيم الدهيشة للاجئين خارج بيت لحم في حديث مع منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" في 12 يونيو/حزيران 2002 أنه قبل خمسة أيام "وُضعت كل وحدات الأمن في حالة تأهب وكان لدى المحافظ قائمة اعتقال جاهزة ـ بما في ذلك فتح." وقال إن خطط الاعتقال عطلها اجتياح جديد لبيت لحم قام به الجيش الإسرائيلي. ولم يفسر لا هو ولا غيره من المسؤولين في بيت لحم تقاعس السلطة الفلسطينية عن بذل مثل هذه الجهود قبل قيام الجيش الإسرائيلي بإعادة احتلال المنطقة، كما عبر عبد النبي عن بعض الارتياح لوجود حجة التدخل الإسرائيلي. وقال "لو لم يفعل شارون ذلك لكنت في وضع بالغ الصعوبة. حماس والجهاد [الإسلامي] ـ ينبغي أن تعربا له عن شكرهما."(52)

    وأبلغ بعض مسؤولي الأمن في بيت لحم منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" أن بضع عمليات اعتقال استمرت على الرغم من ذلك في تكتم. وقال ماجد حمد العطاري رئيس "جهاز الأمن الوقائي" في بيت لحم لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان" يوم 13 يونيو/حزيران 2002 إن قواته ألقت القبض في اليوم السابق على أحد نشطاء "الجهاد الإسلامي" وبحوزته متفجرات وتحتجزه. وعندما سألت منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" العطاري عما إذا كان قد أُعلن عن هذا الاعتقال، رد قائلاً "الإعلان عن حالات الاعتقال هذه أمرٌ غير مفيد." وقال إن السلطات بحاجة إلى "الحفاظ على صورتها أمام المجتمع الفلسطيني في الوقت الذي تقوم فيه بواجباتها."(53) ويعكس تصريح العطاري استمرار تقاعس السلطة الفلسطينية عن الإشارة بصورة واضحة لا لبس فيها إلى أنها تعارض بحزم شن هجمات على المدنيين.

    وتشير المناقشات التي أجرتها منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" مع مسؤولي السلطة الفلسطينية وفتح في يونيو/حزيران 2002 إلى أن السلطة الفلسطينية أكثر تقاعساً في الجزء الشمالي من الضفة الغربية عن التحرك ضد مرتكبي الهجمات التي تستهدف المدنيين مقارنة مع المنطقة الوسطى. فمثلاً أشار مسؤولو السلطة الفلسطينية وغيرهم في جنين إلى أنه لم تكن هناك مبادرات ملحوظة للسلطة الفلسطينية في مجال تنفيذ القانون في تلك المنطقة منذ أوائل يناير/كانون الثاني 2002. وكان المحافظ المعين من قبل السلطة الفلسطينية زهير المناصرة قد غادر المنطقة في أوائل عام 2002 فيما قال الفلسطينيون هناك إنه نتيجة للعداء الواسع النطاق والذي يتخذ في كثير من الأحيان صوراً عنيفة بين أنصار جميع الفصائل، بما في ذلك فتح، لسياسات السلطة الفلسطينية الرامية إلى العودة للمفاوضات السياسية مع إسرائيل. وتؤكد روايات وسائل الإعلام رأي المراقبين المستقلين أن السلطة السياسية للسلطة الفلسطينية محدودة للغاية في نابلس أيضاً. وقد تعرضت المنشآت الأمنية للسلطة الفلسطينية في بيت لحم أيضاً للتدمير أو لحقت بها أضرار جسيمة كما هو الحال في الشمال، لكن المسؤولين في بيت لحم زعموا أنهم يتخذون إجراءات حتى لو كانت محدودة لمنع الهجمات الفلسطينية على المدنيين. وتتفق هذه الصورة التي تظهر تبايناً لقدرات السلطة الفلسطينية السياسية وإمكانياتها في مجال تنفيذ القانون مع تقارير محللين آخرين.(54) وليس من قبيل المصادفة أن بيت لحم كانت المنطقة التي تمكنت فيها السلطة الفلسطينية في أغسطس/آب 2002 من أن تستأنف علناً بعض الأنشطة المتصلة بالأمن بموجب بنود اتفاق تفاوض عليه وزير الدفاع الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر ووزير الداخلية في السلطة الفلسطينية عبد الرزاق اليحيى.